يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب والقلق كلَما تذكرت أنَ موعد اللقاء معه قد اقترب، إنَها كانت تحلم برؤيته منذ زمن بعيد بل قبل أن تولد، وهذا المحبوب شاب وسيم في عينيه بريق يترجم ذكاءه الحاد وسعة علمه، رجل ليس كسائر الرجال، إنَه قوي الجسد، نقي الروح، وإذا تكلَمت معه تشعر كأنك قرأت كلَ كتب التاريخ، أو كأنك أمسكت الأرض بقبضة يدك، سوف تسمع حفيف أوراق الصنوبر، وتشمَ عبق التراب.
هذا هو الرجل الذي تحبه، إنها تنتظره في أحلامها، وفي كلَ حادثة مرَت بها، هو مختلف تماماَ، تسمع صوته ينساب مع أمواج البحار والمحيطات، إنَه يعزف كسنديانة عششت عليها الطيور، وتنتظره أن يطلع عليها مع ضوء القمر، أو من ظلَ شجرة، أو من ذاك الغمام البعيد.
لا يمكن لها أن تنساه، فهو موجود في كلَ ركن من أركان بيتها، وعلى جوَالها والحاسوب، وبين دفات كتابها، وحين تقرَر أن تلتقيه، وتستعدُ لذلك ثمَ تذهب إلى مكتبه، تسمع هاتفها يرنَ، ليطلب منها أن تقرأ الرسالة التي على الطاولة، وليخبرها: أنَه في مهمة عاجلة، والذي ضايقها أنهما لم يلتقيا، لكنها عند المساء، سمعت صوتاَ هادئاَ، أنصتت إليه بكلَ جوارحها، وهذا الصوت يتكلَم شعراَ، وفجأة يتلاشى، وسقطت ورقة من سطح مكتبها، تناولتها وقرأت: “عندما تسمعين هذا الصوت إياك أن تلتفتي جهته، وثقي بي، فالثقة بين البشر تطيب بها الحياة”.
إنها تتعامل مع الأطفال الصغار، فهي مهنة صعبة، وهي تغرق في تربيتهم، فهذا الطفل ذكي، يمتلك شخصية مختلفة، عندما يكون مع أبيه، طلَق والدته بعد قصة حبَ عنيفة، وتغيَرت بعد الزواج، تحوَلت من فتاة لطيفة محبَة إلى شرسة ولئيمة، هكذا يقول الأب عنها، وتقول الأم، هذا الزوج تحوَل من شخص ناجح وواثق من نفسه إلى شخص متردَد يكره العمل، غيور، يفتش عن المشاكل، ومتقاعس، كسول يقضي عطلته بمشاهدة المسلسلات الفارغة من أي مضمون، وأحياناَ يطلق نكاتاَ ساذجة، ويضحك عليها طويلاَ.
وتستمر الكاتبة في مثل هذه القصص، فتارة تأخذها من ذاكرتها وأخرى تتناولها من التراث العجائبي، كقصص ألف ليلة وليلة، ومرة من أحاديث الناس، أو من القصص التي جرت معها، وهي تصيغها بما يناسب موضوعها، لا زيادة ولا نقصان، كذلك فهي تكثر من اللغة الشعرية المحببة إلى القلب، وتضع الأشعار، لها ولغيرها، إنَها تستزيد من شعر المتصوَفة، دون أن يكون ذلك ثقيلاَ على النص، بل إنَه يأتي في خدمة ما تكتبه، إنها تغذَي أفكارها بهذه النصوص الشعرية، لتكون متلائمة مع ما تكتب، وتضع الرسائل التي تعبر عن محبَتها لهذا الشخص، وهذه الرسائل ليست مجرَد كلمات، إنَها أفعال مكتوبة، فقد علَمته أسفاره الكثيرة ورحلاته في الأدغال والجبال الوعرة أنَ لكلَ درب نهاية، إنَها على موعد معه، لكن الأقدار لم تشأ أن يلتقيا، على الرَغم من أنَ كليهما جسدان في روح واحدة.
كذلك تستشهد بالقرآن الكريم، عندما تورد قصة تخدم الفكرة التي تتناولها، وتقدَم الحكمة التي تريد في الوقت المناسب، أتعلمون متى تبكي الروح؟ تبكي عندما تنتظر رسالة مطرَزة بخيوط الفضة وتحملها حمامة وديعة، صعب أن تمنح الحبيب عينك ليرى بها، فإذا به يسحقها، صعب أن تهبه صبراَ فيعطيك ملحاَ.
لقد غاب ليودَع صديقه، لم تستطع أن تتصوَر هذا الموقف العظيم، صارت لا تنطق إلا باسمه، وتهوى أن تموت واقفة إلى جانبه، وعدها أن يعزف لها وحدها ذات ليلة، وأن تكون وحدها الشاهدة على جلال ذاك العزف، اليوم سيلتقيان أخيراَ، لكنه عاد مصطحباَ طنبوره وأوراقه، وذاك الغاب الذي يسكن قلبه، وحصانه الأشهب، عاد هو والقمر وحفنة نجوم ليزرعها في قلبها، ما أجمل الحبَ حين يصير وطناَ نسكنه ويسكننا، تسمع طرقات على الباب، جاء قبل الموعد ليفاجئها، تتنهد ترتجف يدها، تفتح الباب، تتفاجأ برجلَ آخر ” أسرعي أنجديني، زوجتي مريضة جدَاَ وتريد رؤيتك”. وعندما يصلان يجدانها قد أسلمت الروح، ماتت وحيدة كما عاشت وحيدة، وهذا سيأخذنا إلى موضوع تركَز عليه الكاتبة، إنَه يخصُ المرأة، فهي المظلومة وهي المضطهدة من قبل الرجل، إنَها حمل وديع أمام الرجل الذئب، وكلُ قصصها التي توردها تقول بهذا الموضوع، ما عدا حكاية بسَام الذي يعمل حارساَ للروضة التي تعمل بها، وقد أحب فوزية في صباه، وتزوَج من امرأة أخرى، أنجبت له الأولاد ثمَ توفيت، نجده بعدها يرجع إلى حبَه الأول، إلى فوزية، ويعيشان تحت دالية عنب ليعيشا الحبَ على أصوله.
“عزيزتي، عدم لقائنا لا يعني أننا لم نلتق، بل تلتقي روحانا، أنت معي حين أسامر أمَي العجوز، وحين أغوص بأبحاثي وكتاباتي، أنت الحقيقة أنت الروح “.
إنَه الإنسان، إنَه أنا، غيابه لا يعنيني، هو بقربي، أشعر بأنفاسه تسري في دمي، ليس الحبُ مجرَد لقاء، بل الحبُ أعمق، الحبُ أن ترى ذاتك في المحبوب، نحن لا نختار قدرنا بل القدر يختارنا، نحن مسيرون.
والكاتبة تستشهد كثيراَ بالشعر وبأقوال الحكماء والمشهورين والقرآن الكريم، من جلال الدين الرومي إلى نزار قباني وفرويد وهوميروس، وعندما ترتاح تنصت إلى إحدى مقطوعات بيتهوفن، تنصت إليها بإجلال وسكينة وخشوع، وكأنها تبتهل إلى السماء عندما يأتيها الصوت الملائكي:
“أغمضت عينيها تنتشي بالموسيقا، كانت ترقص مع الغيوم، والبجعات تعقد حولها حلقة، وأسورتها تصدر رنيناَ كغيمة في ليلة ممطرة، رقصت وراحت خلاخيلها تعزف الأغاني العذبة، شعرت أنها في معبد قصيَ، سارت بعيداَ وهي تتبع صوت الموسيقا، وصلت إلى الينابيع، سمعت صوت الباب، إنه مندوب إحدى شركات الشحن، سيدتي لك رسالة، ممكن أن توقعي” إنها ورقة شجرة ذهبية تفيض حياة “.
ووصول رسالة منه تقول: ” لا تسأليني عن سبب وجودي، إن سألت يوماَ، فاسألي عن سبب غيابي “، نقطة وانتهت الرسالة.
هكذا هي الحياة، ويوماَ ما سننزل من الحافلة ليصعد إليها ركاب آخرون، لقد ذهبت مع العمَ بسام إلى القرية، تستقبلهم فوزية، فتجد كلَ شيء جميلاَ، تجلس متكئة على جذع الدالية، وتتمتم لا شيء، سوى أنَ الراكب الأخير نزل مؤخراَ من الحافلة، وأخذ معه أمتعتها، وقفت في منتصف الصالة، والماء يسيل من جرتها، ترى هل أصبحت ربة الينبوع، هل استبدلت المدينة وضجيجها بنقاء الريف.
لم تفتح الباب هذه المرَة، ولم تفتح الرسائل، فانصرف، هرعت إلى النافذة كي تراه، نظر إليها متعجباَ حزيناَ عاتباَ، ونظرت إليه عاشقة ودودة مشتاقة، انصرف مسرعاَ، فقالت بانكسار: لا أحب الآفلين.
لقد كسرت مفهوم الرواية التقليدية، وهيمنت على افكارها الرؤى الصوفية، إنها تجمع الواقع بكلَ آثامه وتناقضاته، بفرحه وحزنه، إنها تعايش مأساة كلَ صغير في روضتها، تعيش آلامه ومأساته، ولكنها تبقى في حضرة المحبوب، وعندما يغيب، تودَعه بانكسار.
ـ في حضرة المحبوب ” رواية “
ـ رولا عبد الحميد.
ـ وزارة الثقافة ـ الهيئة العامة السورية للكتاب. 2023.
ـ عدد الصفحات: 144 صفحة.
رولا عبد الحميد: مواليد حلب ـ سورية ـ تحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعتها عام 1999 ودبلوم الدراسات العليا في اللغات السامية عام 2000 ودبلوم التأهيل التربوي، وهي عضو في اتحاد الكتاب العرب، لها / 11 / ديواناَ وهذه الرواية، وترجمت بعض قصائدها إلى اللغة الإسبانية.
مجلة قلم رصاص الثقافية