الرئيسية » مبراة » نُخب عارية في بركة الدم!

نُخب عارية في بركة الدم!

لا يمكن توصيف ما يحدث في سوريا خلال الأسابيع الأخيرة إلا بـ”الانفلاش” القاتل، فالعنوان الذي يطغى على وسائل إعلام والغة في الدم السوري، “سوريا حرة”، عنوان جميل يدغدغ مشاعر ملايين السوريين، ويراد منه إيهام السوريين إن مأساتهم انتهت، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، وتفاصيل سوريا كثيرة جداً، والمأساة بدأت الآن، فمن ينتشل البلاد اليوم من بركة الدم التي تكبر يوما بعد يوم، وأين نخب سوريا من كل ما يجري على الأرض.  

نخب سوريا التي قمعها النظام الشمولي وأخصاها وأقصاها طيلة عقود، غادرت غالبيتها البلاد مبكراً، ونالت حريتها واستعادت فحولتها، لكنها انشغلت عنه بافتتاح “دكاكين” للارتزاق على حساب الدم السوري، ولم تتفق حتى فيما بينها على مشروع جامع لسوريا والسوريين الذين يتخبطون اليوم كطيور وقعت في شرك لا تدري كيف ستتخلص منه، ويبدو أنها لم تطرح على نفسها سؤال ماذا في اليوم التالي؟ ولم تملك خطة لذلك تحسباً لسقوط النظام، وعملت كما يعمل السوريون عادة وغالبية العرب في كل شؤون حياتهم والتي تختصر بعبارة “بنشوف شو بيصير معنا” أي لا خطة، “خليها ع التياسير”، ولعل هذا يرجع لفقدانها الأمل بسقوطه، وقد تخشبت من “النضال” مع الزمن كما تخشب النظام، وبالتالي صار هم معظمهم زيادة رصيده وملذاته وإشباع رغباته، والعمل على إنشاء “قطيعه” الخاص الذي سيحتاجه عند غزو “نخبوي” آخر عبر الفيسبوك، غزوات تحكمها غالباً صراعات على مناصب وعضوية لجان وتمويلات وجوائز ودعوات إلى مهرجانات ومؤتمرات وندوات…إلخ، وبعد أن بنى كل منهم شبكة علاقاته العامة والخاصة، وضمن مستقبل أولاده، ما عاد يعنيه من أمر السوريين شيئاً. 

منذ لحظة سقوط النظام، اللحظة التي انتظرها ملايين السوريين وفرحوا بها وهو فرح مبرر، وخشي منها ملايين السوريين الخائفين من مصير مجهول وهو خوف مبرر، لم تر من غالبية تلك النخب سوى تبادل الشتائم والتخوين والردح الافتراضي الذي انخرطت به قطعانهم، إذ عاد كل منهم إلى مجلد “السكرين شوت” الخاص به، وأخرج للبقية صور “بوستات” وتعليقات يدينهم بها، من كان مع الثورة ومن كان ضدها ومن وقف على الحياد بانتظار الكفة الراجحة، أسماء كثيرة كنا نراها كبيرة في مرحلة ما، وهي التي صرخت في وجه النظام القمعي ودفعت الكثير في مرحلة ما، هوت دفعة واحدة عند أول اختبار حقيقي.

نخب كان همها كما تدعي إطلاق الحريات العامة، حرية الرأي والتعبير…إلخ، لكن يبدو أنها كانت تعني حريتها هي ورأيها هي وليس رأي الآخر أو حرية الآخر المختلف بالرأي، لأنك إن خالفت أحدها في “جمهوريته الفيسبوكية”، سيلغيك بكبسة زر، ولن يتورع عن محوك وإعدامك في “صيدنايا” العالم الافتراضي، فمنذ أيام لم تتوقف عمليات الإلغاء والحذف والحظر والتخوين والاتهام بمحاباة النظام السابق، فترى كاتباً يطلب من مكان إقامته في الخارج البحث عن كاتب آخر يعيش في الداخل، ويضع جائزة لمن يدل على مكانه، ليُقام عليه الحد، وتتحقق “العدالة الإلهية” التي يدعو إليها، وفنان يطلب القصاص من آخر، وهكذا دواليك. 

إن غالبية النخب السورية اليوم والتي من المفترض أن تؤدي دوراً هو الأهم في المرحلة الحالية من تاريخ سوريا، وهي مرحلة لا يدرك حساسيتها معظم السوريين، منشغلة بتصفية حسابات شخصية وثارات قديمة عادت إليها كتاجر مفلس، لتقيم الحد على آخرين اختلفوا معها في المواقف، لذا تتابع صفحاتهم فتجدها تنضح حقداً وكراهية لا تختلف كثيراً عن تلك التي مورست عليها في يوم من الأيام، وهذا سيجعلنا نعود إلى نقطة البداية.

تلك النخب التي كانت تأمل أن تدخل قصر الشعب وهي ترفع شارة النصر في يوم من الأيام، أزاحها عن المشهد تافهون ويوتيوبرية وتيكتوكرية وشلنتحية ـــ وتصدروه في مهزلة تاريخية لست أدري ما سيُكتب عنها في التاريخ السوري المعاصر، ولو كان في سوريا عالم اجتماع واحد بوزن العالم العراقي علي الوردي، لإعادة كتابة “مهزلة العقل البشري”، ولكن بعنوان “مهزلة العقل السوري” الذي يرى في قتل السوري الآخر انتصاراً لثورته المباركة ـــ تعامت عن كل ذلك، وصبَّت جام غضبها على “المهزومين” من زملاء وأصدقاء سابقين. 

عقد ونيف والدم السوري مباح، والوطن السوري مستباح، والنخب تردح لبعضها عبر وسائل “التباغض الاجتماعي” غير آبهة بما يحدث على الأرض، دون أن تعترف أن الدم لن يجلب سوى المزيد من الدم، وسوريا المتشرذمة اليوم، والتي قال عنها الشاعر رياض صالح الحسين: ” يا سورية الجميلة السعيدة كمدفأة في كانون، يا سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب”، أضحت عظمة بين أسنان ضباع مسعورة تنهش من أبنائها كل ما يقع بين أنيابها، بعد أن وقعت “الصيدة” التي أفلتت يوماً ما وظنت أنها نجت، فهل هذه هي العدالة التي كنتم تنشدون! 

إن كان الماضي السوري قاتما، فالواقع السوري اليوم أشد قتامة، والمستقبل مجهول، وكل سوري هو مشروع جثة على قارعة الطريق، طريق الجلجلة، وسوريون وغير سوريين يصلبون سوريين ولم يشبه لهم هذه المرة، ولا مسيح آخر في الأفق يفدي هذه الأمة، فهل ستندمون كما ندم يهوذا، وأنتم شركاء النظام القمعي في تسليم السوريين للذبح!

لا أعتقد ذلك، فمن عاش على الدم طيلة سنوات، ورفض تقديم أية تنازلات لحقنه، لن يهتم إذا سُفك المزيد من الدم، فالشيخ الذي افتى بقتل أي سوري يقف مع النظام عسكري أو مدني، قال ذات لقاء: “ليمت مليون سوري، ومالو”، أين المشكلة! لا مشكلة طبعاً يا شيخ ما دام القاتل ليس من ذويك، والمقتول لا يعنيك، فبأي عين قابلت وجه ربك. ولم يخرج أحد منكم ويقول له ما الذي تقوله، خشية أن يُهمش أو يخسر تمويله من أولياء نعمته.  

لقد أسقط الامتحان السوري عشرات “الأوثـان” فتهاوت دفعة واحدة كما تهاوت تماثيل “النخبوي الأول” في سوريا، وقد تعرت غالبية النخب اليوم في بركة الدم، بين من اختار التمسح بسلطة الأمر الواقع وشرعنتها ومباركة مآثرها والصمت عن الاعتداء على الحريات والقتل والتمثيل بالجثث واستباحة دم السوري المختلف، فقط لأنه كان يقف في الضفة المقابلة، وكأن موقف النخبوي “الإنساني” متوقف على هوية الضحية، فهناك ضحية يتعاطف معها ويتباكى عليها، وأخرى يتجاهلها تماماً، والعدالة التي ينشدها هي عدالة قبلية عشائرية تقوم على رفض الاحتكام للقانون والأخذ بالثأر، (رغم أن العقلية العشائرية تطورت في السنوات الأخيرة وما عادت عائلة المقتول تقتص إلا من القاتل الفعلي)، وبين مشغول بتصفية حساباته الشخصية، وصامت ينتظر انقشاع الغبار، وعاجز لا حول له ولا قوة. 

مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن فراس م حسن

فراس م حسن

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *