الرئيسية » رصاص حي » علويّو سوريا… عن الجذور الثقافية والوطنية والعروبة

علويّو سوريا… عن الجذور الثقافية والوطنية والعروبة

”عندما أتوا بحثا عن الشّيوعيّين،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن شيوعيّا./ عندما أتوا بحثا عن النّقابيّين،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن نقابيّا./ عندما أتوا بحثا عن اليهود،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن يهوديّا./ عندما أتوا بحثا عن الكاثوليك،/ لم أنبس ببنت شفة لأنّي لم أكن كاثوليكيّا./ ثمّ أتوا بحثا عنّي،/ ولم يبق أحد ليحتجّ“.
(قصيدة كتبها الرّاهب مارتن نيمولّر في معسكر داخّاو النازي؛ قام كاتب النّصّ بلعبة لغويّة على فعل احتجّ.. المحتجّون هو اشتقاق وأصل كلمة: پروتستانت).

يا هالعريس بلادك ما قريناها/ يا بدلتك من جبل عجلون قطعناها/ وتفصلت بحلب واهتزت بالشام/ يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي/ الجواد اخذتي، والنذال خليتي/ يا نجمة الشام وين وين عليتي/ الجواد اخذتي، والنذال خليتي/ نذراً عليّ إن عادوا حبابي ع بيتي/ لأضوي المشاعل وحنِّي
(أهزوجة من التراث الفلسطيني السوري).

في مثل هذا الوقت بالذات مِنَ السَّنة الماضية (رمضان 2024)، انبرينا للدفاع عن فرقة الحشاشين كفِرقة ثورية في التاريخ العربي الإسلامي-الإسلامي، وما يستتبعه من دفاعٍ عن الطائفة الإسماعيلية ككُلٍّ، وعن فرعِها النِّزاري خاصَّةً، باعتبارها مكوِّنا من المكوِّنات الفاعلة فكريا وسياسيا في النسيج الاجتماعي لكثير من البلدان العربية والإسلامية، في مواجهة مسلسل تلفزيوني شاء تشويهَها لمقاصد سياسية وطائفية صِرْفَة موَّلَتها رساميل مصرية وخليجية (سنبيِّن لاحقا، في متن المقال، أن ثمَّة خيطا فاطميًّا/إسماعيليًّا رفيعا يربط بين الماضي والحاضر، بيْن تبنيّنا أمس الدفاعَ عن الطائفة الإسماعيلية، وتبنينا اليوم الدفاعَ عن الطائفة العلوية)؛ وقَبْلَها انبرينا للدفاع عن حرية سلمان رشدي في التعبير والتفكير إثرَ تعرُّضه لعملية اغتيال لأسباب دينيَّة، دون أن يعفينا ذلك من فضح ارتضائه أن يكونَ أداةً تبريرية لاستباحة الإدارة الأميركية للبلدان العربية والإسلامية من خلال حروبها الاستباقية والإبادية؛ كنا ساعتَها في ”الأخبار“ الجريدةَ الوحيدة عربيا التي اتخذت هذا الموقف النقدي المتميز، المدافع بالمطلَق عن حرية التعبير والمناهض أيضا بالمطلق لسياسة الكولونيالية الغربية.

نشيرُ هنا إلى أننا، في تحاليلنا، أبعد ما يكون عن الميل إلى التقوقعات الطائفية بغرائزها وأحقادها، وإنما نتناول الطوائف هنا كمعطيات سوسيولوجية وتمظهرات ثقافية، محاولين ما أمكن إبعادها عن إسقاط العقائدي على السياسي وعكسه.
فما هي إذن أصداء الماضي القريب لإسهامات الطائفة العلوية بِتاريخ سوريا الحديث في حاضر المجازر التي جرت هذه الأيام في الساحل السوري وما استبقها من تحريض وتأليب أسهمت فيه للأسف شخصيات محسوبة على النخبة المثقفة؟ وهل من أصول للفاشية الدينية الطارئة بسوريا؟
من الأكيد أن القارئ سيندهش لجغرافيا وتاريخ يتكرَّران، لتقاطعات بين سياسة الانتداب الفرنسي الإجرامية في سوريا والمجازر التي ارتكبتها الميليشيات الجهادية التي مكَّنها الغرب وتابِعُه التركي من أن تصير سلطة أمر واقع في سوريا الرَّاهنة؛ وسيندهش أكثر للكثير من الروابط العريقة بين أهل الساحل السوري وفلسطين.

عز الدين القسَّام

عز الدين القسَّام، الذي تسمَّت على اسمه الكتائب التي تشكِّلُ الجناح العسكري لأهم فصيل في المقاومة الوطنية الفلسطينيَّة (حماس)، ربَّما غاب عن ذهن الغالبية عندما تسمع بهذا الاسم أنه سوري من مواليد جبلة (1871)، درَس في الأزهر وكان من تلاميذ الإمام محمد عبده، كما شارك في الثورة السورية الكبرى إلى جانب الشيخ صالح العلي، وحاولت سلطات الانتداب الفرنسي استمالته بتوليته القضاءَ، فرفض وحُكِمَ عليه بالإعدام من طرف ما يسمى بالديواني العُرْفي، فاستطاع الهروب إلى حيفا في 1922، حيث مارس التدريس والإمامة والخطابة، وأسهم في تأسيس جمعيات ثقافية وسياسية لمناهضة التغلغل الصهيوني الناشئ ساعتئذ. فانعقد عليه إجماع الفلسطينيين واحتسبوه واحدًا منهم، ووجها عربيا بارزا من وجوه الكفاح الفلسطيني بشِقَّيه المدني والمسلَّح، ليستشهِدَ مشتبِكًا مع المشروع الصهيوأمبريالي، ولتَحْمِلَ اسمه فيما بعد كتائبُ جناحٍ عسكريٍّ لأبرز فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية الحالية (حماس).

وعلى العكس من عز الدين القسام تماما، على العكس من الزعيم الذي تربَّى على التنوير المصري في بواكيره الأولى مع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، على العكس من السوري الذي رأى في انتفاضة الشيخ العلي آمالا لشعبه، برزت خلال الطوفان السوري الذي بدأ في 2011 ظواهر سلفية جهادية هي مشتقات تنظيم القاعدة الموظَّبة في مطابخ أجهزة المخابرة التركية والخليجية والغربية، وفق خطة تستهدف أتلاف النسيج الاجتماعي السوري ومقدَّراته العسكرية والفلاحية والنفطية، دون أدنى تحرُّج من إدارة الظهر لـ”إسرائيل“ ومقاتَلة الجيش السوري وتلقي العلاج في مشافي الكيان الصهيوني. للإشارة، فأول ما قامت به هذه الجماعات الإرهابية في 2011 هو تخريب الدفاعات الجوية للجيش السوري في القنيطرة.

فتوى الحسيني 

عندما كانت فرنسا تحتل سوريا، وتحاول التلاعب بالطوائف قبل مئة عام، لم يكن ثمَّة من خرج دعمًا لها ليرهب الناس ويُخضِعهم لإرادته بممارسة المجازر. كان ذلك زمنا ذهبيا، قبل اكتشاف التكفير وظهور شيوخ الفتنة. أحد عقلاء ذلك الزمان، قطع الطريق على فرنسا: كان مفتي فلسطين، ورئيس المؤتمر الإسلامي العام، الحاج أمين الحسيني، حكيما وعروبيا جامِعًا بإصداره في عام 1936، بعد إخماد الثورة السورية الكبرى وبروز أطروحة دولة العلويين من جديد، فتوًى قال من ضمن أهمِّ ما قاله في متنها: ”إن هؤلاء العلويين مسلمون، ويجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان“. كان لهذه الفتوى، من قائد وطني وديني حقيقي، ردود فعل إيجابية من رجال الدين العلويين وغيرهم، فأصدروا فتاوى مماثلة تدعو إلى وحدة سوريا وشعبها، بمختلف طوائفه وأديانه ومِلَلِه.

إزاء فتوى الحسيني، واجهتنا منذ 2011 فتاوي شيوخ تكفيريين تقف خلفهم آلة إعلامية جهنمية وضخُّ أموال ببلايين الدولارات ودعم بمقاتلين سهلت تركيا نفادهم نحو الداخل السوري، تحت شعارات يمكن إجمالا في: ”بالذبح جئناكم يا نصيرية“، ”المسيحي ع بيروت والعلوي ع التابوت“.

بالمنطق نفسه، كانت القنوات الإعلامية الموغلة في دم السوريين تسمي الجيش السوري جيشا نُصَيْرِيًّا وتحسب النظام البائدَ نظامَ طائفةٍ بعينِها؛ فلو كان الأمر كذلك لكانت هي الطائفة الأكثر تسلُّحًا، بيد أنَّه تبيَّن خلال المجازر الأخيرة أنها طائفة من المدنيين العُزَّل، استُهدِفَتْ في نخبتِها، مِنْ أطباء وصيادلة ومدرِّسين، وكأنَّما يرادُ إعادة العلويين إلى جبال التهميش الطبقي وإخراجهم من دائرة المشاركة في الشأن السوري العام.

الشيخ صالح العلي

يا صالح فرنسا لا تصالح/ وعظم إلى انكسر ما ظن صالح

يا سايس قدم المهرة لصالح/ بروس حوافِرَا تقطر دمَّا

(أبيات زجلية كان الشيخ صالح يرددها بعد انتهاء الثورة متأثرا، وهي للمجاهد علي زاهر، من قرية حمام أبو علي واصل ناحية قدموس منطقة بانياس، الذي أعدمته سلطات الاحتلال الفرنسي).

سطَّر تاريخ سوريا اسمَه كمفجِّر لأول ثورة في وجه الاحتلال الفرنسي بجيش شعبي كبَّد المستعمِرَ الكثير من الخسائر، وقبلها طرد العثمانيين من كامل الساحل السوري. ويبدو أن إفشاله لرهانات العثمانيين والقوى الاستعمارية الغربية هو ما ألَّب القوى نفسها، تحت مسميات جديدة وقديمة، ضدَّ أبنائه وأحفاده في الساحل السوري هذه الأيام.

ولد الشيخ صالح العلي في العام 1885 لأسرة فاطمية توزعت بين مصر وسوريا والمغرب، لأسرة قارعت الصليبيين منذ حلولها في جبال الساحل بين صافيتا وجبلة، لِوالده الشيخ علي سلمان من قرية المريقب، التابعة لمنطقة الشيخ بدر في جبال الساحل السوري ولِوالِدَته حبابة ابنة الشيخ علي عيد من قرية بشراغي القريبة من مدينة جبلة.

بدأت ثورته ضد العثمانيين بشكل عفوي، حينما قام بعض الجنود العثمانيين بمحاولة اقتحام منزله خلال وجود زوجته فقام بقتل جنديين عثمانيين، فأعلنت الدولة العثمانية حكم الإعدام بحقه، فيشعل الثورة ضدها متَّخذًا من منطقة الشيخ بدر مقرا له. تطورت ثورته وتنظمت بالتنسيق مع الشريف حسين ورجالات الثورة العربية الكبرى؛ وعندما بلغ السلطات من الوشاة أن رُسُل الشريف حسين تواصلوا معه، قامت بمداهمة أملاكِه في قرية ”كاف الجاع“ قرب قدموس بانياس، وأحرقت داره هناك، وفي طريقها أحرقت ودمَّرت القرية بكامِلِها، وعندما بلغه الأمر لاحق آخر دورية تركية منسحِبة استطاع قتل ثلاثة من أفرادِها؛ دخل بعدها في حرب استنزاف طويلة الأمد ضد العثمانيين وبتنسيق مع طرابلس الشام وجبل لبنان.

بحلول الانتداب الفرنسي، رفض الشيخ صالح العلي عرض الفرنسيين بإقامة دولة علوية في الساحل السوري، فصدر عليه حُكم الإقامة الجبرية، وقامت فرنسا بعد استشارات مع مجموعة من المتحالفين معها في الجبل بترغيب أخيه الأصغر الشيخ محمود لتجعل منه بديلا سياسيا عنه إلا أن الأخ محمود رفض ذلك، وعلى أثر ذلك تم تعريضه للتعذيب وخرج جراء ذلك يعاني من إيذاء جسدي ونفسي لازمه حتى وفاته.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الجماعات الجهادية الحالية استعملت نفس التكتيكات التي كان يستعملها الاحتلال الفرنسي: اصطياد كل من يصادفونه في طريقهم، وتعمد القتل ورمي الجثث على قارعة الطريق، لبث الرعب في نفوس الأهالي المناصرين لثورة الشيخ العلي.

مما هو معروف عن الشيخ صالح العلي أنه كان يربّي دودة القز وينتج الحرير ويقوم بتربية الماعز والماشية ويقوم بزراعة الدخان وله إلمام بطب الأعشاب وهو من الأوائل الذين زرعوا شجرة التفاح في الجبل وكان يقوم بفلاحة أرضه بنفسه، كما كانت لأسرة أمِّه مكانة رفيعة ساهمت في ضخ ثورتِه بالمال والرجال؛ وكذلك تلقّى الدعم من المغتربين السوريين في الأمريكيتين وخاصة العلويين في الأرجنتين والبرازيل وكذلك عائلة بيت الهواش المتوزعة بين نواحي صافيتا ومصياف.

تحالف مع الملك فيصل خاصة بعد انعقاد المؤتمر السوري العام ومما هو معروف رفضه طلب مصطفى كمال له بالتنسيق بينهما دون معرفة الحكومة الوطنية في دمشق. وتعاون مع المجاهد إبراهيم هنانو قائد ثورة الشمال السوري في جبل الزاوية وأنطاكية تعاونا استراتيجيا مميزا، وتعاون مع المجاهد عمر البيطار في الحفة وكذلك مع المجاهد عز الدين القسام الذي قام بعد التصدي للفرنسيين ومضايقتهم له بالنزوح إلى الجنوب السوري (فلسطين) حيث قاتل الاحتلال الإنكليزي والمستعمرين اليهود، وقد أمّن الشيخ صالح في وقت لاحق إيصال عائلته إليه عن طريق سهل عكار.

وكذلك تلقّى الدعم من بعض القبائل العربية في الفرات أمثال قبيلة الولدة ممثلة بزعيم القبيلة الشيخ علي البرسان وكذلك عائلات مدينة حماة. ومن عائلات تلكلخ وخاصة الدنادشة الذين قاموا بإشعال الثورة في مناطق تلكلخ ومدّوا الشيخ صالح العلي بالسلاح والمال والرجال ولم يألوا جهدا في صمود ثورة الشيخ صالح.

بعد انتهاء الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، بدأ الفرنسيون يعدون المواطنين السوريين بالاستقلال وبدأت مرحلة صراع جديدة ارتكز فيها السوريون على الإضرابات والعصيان المدني والفرنسيون على التبشير الديني- السياسي، مما حدا بالشيخ صالح العلي إلى معاودة نشاطه السياسي في بداية الثلاثينات لمقاومة حالة التبشير السياسي-الديني والذي قامت به البعثات التبشيرية الفرنسية خاصة والغربية عموما في أوساط المسلمين عامة والعلويين خاصة وكذلك في أوساط المسيحيين الأرثوذكس والموارنة، حيث قام الفرنسيون بدعم بعض الأفراد والعائلات بالمال وبالنفوذ السياسي مستغلة الوضع الاقتصادي المزري لهذه الفئات، وخلقت مراكز قوى جديدة وزعامات فئوية جديدة. توّج النشاط السياسي للشيخ العلي بالموقف من تأسيس دولة جبل العلويين حيث رفض ذلك ووقع مع شخصيات كثيرة من الجبل الوثيقة الداعية إلى ضم الجبل العلوي إلى سوريا الداخلية.

وفي الاستقلال في بداية الأربعينات (1943) عرض عليه في أول حكومة اختيار الوزارة التي تروقه لاستلامها فرفض لعدم قناعته بذلك مفضلا النشاط السياسي من خارج الحكومة وبعد جلاء آخر جندي من الحامية الفرنسية الأخيرة من اللاذقية ألقى خطاب الجلاء في دمشق.

في 1950، قبيل وفاته بقليل، كتب وصيته برصد القسم الأكبر من ثروته لبناء مدرسة وجامع ومستوصف، وعين أوصياء لتنفيذ هذه المشاريع لصالح الفقراء.

هي إذن مسيرة رجل عروبي مدَّ نشاطه لسائر أطراف المشرق العربي، مسهمًا في جمع لحمة كل بقاع التراب الوطني السوري بسائر أطيافه، متصديا لنزوعات السيطرة على القرار السوري المستقل سواء من طرف العثمانيين أو القوى الغربية، مكرِّسًا نهجا وطنيا وقوميا لم تحد عنه طائفته وأهله أبدا.

نموذج المثقف العلماني العائد إلى طائف(ي)ته وعِرْقِه: صادق جلال العظم بين التنظير لمظلومية السنة والعودة إلى الأصولِ التركية

لكلِّ حراك اجتماعي ممهِّدات سياسية وأسس ثقافية تؤطِّره: فمثلما كان للثورة الفرنسية آباؤها مِنْ بين فلاسفة الأنوار، كان للثورة الروسية مِهَادٌ ثقافي أسهمت فيه الأنتلجنسيا الروسية لأواخر القرن 19 (تولستوي، دوستويفسكي، غوغول، ليرمنتوف، أوستروفسكي، غونتشاروف..)، ولم يكن لثورة عُرابي أن تقوم لولا الجهود التنويرية للإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وبقية نخبة مثقفة أذكت مشاعر الشعبي المصري في مواجهة الاحتلال الإنجليزي.

ولكن، كيف هو الأمر بالنسبة لحراك السوريين في بداية 2011؟ هل كان فعلا ثورةً؟ هل كانت تؤطِّرها أنتلجنسيا وتراكم ثقافي وسياسي تحرُّري؟

سيكون نموذجنا هنا هو صادق جلال العظم، المفكر الأبرز ضمن الأنتلجنسيا السورية الداعية (سابقا) إلى العقلانية والتنوير والعلمانية، فهو أيضا النموذج الأبرز لعودة العلماني إلى طائفته (السُّنِّيَّة) وأصوله العِرْقِيَّة (التي تعود إلى أسرة تركية حلَّت بدمشقَ مع دخول العثمانيين إلى المشرق العربي). بل ربَّما كان صادق جلال العظم، بمنطقه التبريري الأحول المثال الأبرز لما صار يسمَّى يسار جبهة النصر، الذي بدل البناء على مكتسبات الشعب السوري في صون علمانية الدولة المبنية على قيم المواطنة، شرع في تفييئ السوريين إلى طوائف وأعراق ومحميات ذات هوية ما تحت وطنية، إن لم تكن قَبَلِيَّة.

فمن مناشدة صادق جلال العظم للقيادات الشيعية بالعراق الصَّفحَ عن السُّنَّة إلى ترويجه أطروحة مظلومية السُّنَّة في سوريا، ماذا تبقَّى من المفكِّر الناقد للفكر الديني من أساسه؟

في الـ 19 من نيسان/أبريل 2013، افتتح صادق جلال العظم في برلين ”منتدى برلين للمسلمين التقدميين“، في نسخته الثامنة، والذي تنظمه مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية (أحد رعاة ngos الثورات المجهَضة). وصف العظم في كلمته الافتتاحية الوضع في سوريا على النحو التالي: هناك ”نظام أقلوي معسكر عسكرة عالية جدا ومسلحا تسليحا هائلا يستند إلى عصبية طائفية صغيرة وهو يفتك بثورة الأكثرية في البلاد مستخدما الأسلحة كافة من الخفيف إلى الثقيل، لضرب المدن والقرى والأحياء والمزارع والأحراش والغابات التي تقطنها هذه الأكثرية وتعيش فيها منذ قديم الزمان [..] على عكس لبنان، الفاعل الرئيسي في سوريا هو النظام نفسه مسخرا الدولة وأجهزتها وموظفيها ومواردها لحربه الشعواء على الشعب السوري عموما وعلى أكثرية العددية السنية تحديدا، هذه ليست حربا أهلية بأي معنى من المعاني الجدية للعبارة.  كما أن تطرف النظام في عسكرته وتدميره ومذابحه لا تقاس على الإطلاق بالتطرف الذي كثيرا ما ينسب إلى الثورة نفسها أو لبعض مكوناتها، علما بأن التطرف يستجر التطرف والبادئ أظلم“.

هذه الأسطر المكتوبة بِحِبْرِ الطائفية، في اعتبارها أطراف الصراع على أرض سوريا تشكيلات طائفية دون أيَّة تعبيرات سياسية أخرى، هي ما أسهم بشكل كبير في تبرير موجة إعلامية عارمة من نسب النظام البائد لطائفة، ولاحتساب الجيش السوري كقوَّة عسكرية بيد طائفة أقلية ضد طائفة أكثرية؛ وهو ما بينت الوقائع عدم صوابيته. فقد كان نظام آل الأسد يقمع معارضيه بوصفهم معارضين سياسيين له، لا كأبناء طوائف (فهو مثلا لم يتورَّع عن اختطاف واغتيال المعارض البارز، زعيم حزب العمل الشيوعي المعرض، عبد العزيز الخيِّر، الذي لم تشفع له علويته في شيء؛ مثلما لم تشفع له معارضته الراديكالية السلمية لنظام بشار الأسد في تعامل باقي أطياف المعارضة غير الوطنية معه).

ثاني أخطاء صادق جلال العظم القاتلة على مستوى التحليل، تبريره تطرُّف بعض مكونات ”الثورة“ باعتباره ردَّ فعل على تطرف النظام البائد، بيد أنَّه تطرف واردٌ على الشعب السوري من تغلغل تنظيم القاعدة في الجارة العراق ومن تبنيه من طرف خليط هجين من الأجهزة المخابراتية التركية والخليجية والغربية.

خلاصة

كانت الطائفة العلوية وما زالت، عبر تاريخها المجيد، جزءً أصيلا من الهوية الوطنية والقومية في سوريا؛ وربما بسبب هذا التاريخ الصدامي مع قوى إقليمية ذات نزوعات توسعية وقوى غربية صارت الآن ذات أطماع استعمارية في حقول النفط والغاز قبالة الساحل السوري، تمَّ الاستفراد بها كطائفة مسالِمة وعزلاء من طرف أذناب وأدوات هذا التحالف الهمجي، وبتحريض إعلامي وتبرير فكري تمَّ التمهيد والتحشيد له بآلة جهنمية تقوم على ضخ رساميل ضخمة وعتاد حربي فتاك وقوده آلاف القتلة من السلفيين الجهاديين الذين استجمعتهم هذه القوى ودماء أهلنا في الساحل السوري.

ملحوظة لها علاقة بما سبق: منذ سنتين وأنا على تواصل مع كُتُبْجِيَّة سوريا على صفحات فيسبوك، سعيا لاقتناء وتجميع طبعات روسية قديمة من الأدب السوفيتي الصادر عن داري رادوغا والتقدم؛ فجأة وبعد سيطرة سلطة الأمر الواقع على سوريا، قلَّتْ ثمَّ اختفت هذه الكتب من التداول في الأسابيع الأولى بعد سقوط دمشق، في ما يشبه موجةً من الروسوفوبيا شبيهة بتلك التي حلَّت مع اشتداد الصراع الأوكراني-الروسي؛ أبلغني بعض الكتبجية أنه ثمَّ إخفاء هذه الكتب خوفا من انتقام السلطة الوافدة، ليحلَّ محلَّها الكتاب الديني في أشدِّ نماذجه تطرُّفًا وكراهية للآخر؛ بل صارت كراتينُ منه توزَّع مجانا في سائر المحافظات السورية سعيا لأدلجة الشعب السوري وفق تعاليم إمارة إدلب.

لهذا السبب وغيره من الأسباب، ما زالت شروط الثورة قائمةً في سوريا..

المصدر الرئيس للمعلومات التاريخية: موسوعة ”رواية اسمها سورية: مئة شخصية أسهمت في تشكيل وعي السوريين في القرن العشرين“ (3 مجلدات)، إشراف نبيل صالح، إصدار خاص، دون مكان، 2007.

* نُشر في ملحق يومية الأخبار البيروتية بشكل جزئي.

مجلة قلم رصاص الثقافية |  الأخبار

عن رشيد وحتي

رشيد وحتي

شاهد أيضاً

سوريا والهوية الضائعة!

خمسون عامًا من الحكم الدكتاتوري تركت أثرًا عميقًا على الوعي السياسي للسوريين، فلم يكن هناك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *