مع أذانِ المغربْ، يُطفئُ آدمُ صيامَهُ بثلاثِ حباتٍ من التمرِ، يلوكها في فمِه، يتبعها خريرُ ماءٍ يجري عذبًا في حلقِه. تتنفسُ القهوةُ في كوبِها القديمِ، بينما يشعلُ السيجارةَ من أختِها، نارٌ تبتلعُ نارًا، والدخانُ ينسجُ حروفًا تذوبُ في الهواءِ.
على شاشةِ هاتفِه المهترئةِ تتسرّبُ الأخبارُ الحمراءُ كشقوقٍ في السماءِ، كدماءِ من جرحٍ لا يندملُ. حرائقُ، خرابٌ، مجازرُ، صرخاتٌ مُعلَّبةٌ بين إعجاباتٍ ومشاركاتٍ. إصبعُه يمرُّ على الصورِ بلا وعيٍ، كمن يلمسُ جدرانَ كهفِه المظلمِ، باحثًا عن بصيصِ ضوءٍ يبدّدُ العتمةَ.
الشارعُ إلى العملِ شريطٌ سينمائيٌّ مكرّرٌ، الوجوهُ نفسُها، الابتساماتُ ذاتُها. يعبرُ مسرعًا، متدثرًا صمتَهُ، تتسللُ من ذاكرتِه جملةُ سليمانَ (عليهِ السلامُ): “ما كانَ فهو ما سيكونُ، وما صُنعَ فهو ما يُصنعُ، لا شيءَ جديدٌ تحتَ السماءِ”.
يفكرُ.. مضت ثلاثةُ آلافِ عامٍ على تلك الكلماتِ، ما أسرعَ الزمن، كأنَّما الأيامُ تمرُّ كطلقاتِ رصاصٍ على جدارِ الحياةِ.
قبلَ أن يختفي في الزحامِ، تلتقطُه عجوزٌ متسوّلةٌ، ثيابُها نظيفةٌ لكنَّها رثَّةٌ، عيناهَا كنافذتَينِ إلى عالمٍ بلا أسوارٍ، تمدُّ كفَّها المتشقّقَ نحوَهُ، كدماتٌ زرقاءُ على ذراعِها…
يمنحُها درهمًا، ويهمُّ بالرحيلِ.
تستوقفه، نظرتُها تخترقُه:
_ عيناك ثقيلتانِ بالحزنِ. لا تخفْ، الفرجُ أقربُ ممَّا تظنُّ…
يردُّ كأنَّه يبرّرُ لنفسِه:
ـ ليتني أملكُ إيمانَكِ..!
_ الآنَ، ستحتاجُه أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، انظرْ… لقد انشقَّ القمرُ.
يرفعُ عينَيْه. فجوةٌ فضيّةٌ تشقُّ السماءَ، كأنَّها عينٌ تحدّقُ فيه. العجوزُ تختفي، الشارعُ يتلاشى، والضبابُ الأزرقُ يبتلعُ كلَّ شيءٍ.
مجلة قلم رصاص الثقافية