ولد الشاعر عام 1943 في قرية ترشيحا التي تجلس في حضن الطبيعة فوق تلَة مشرفة على سهول البرتقال والليمون، وقد قال فيها الشاعر:
ترشيحا/ماذا يا غالية العينين عن الغربة/ وزمان الهجران يطول/ …
ترشيحا/ أنتظر إشارة دمع/ تتخطَى أبعاد المطلق/ طيَ الريح/ تطمئنني/ ماعدت أطيق من الشجرة/ جذراَ في التربة/ وغصوناَ في المنفى.
أسرته من عرب بني خالد، وهم مزارعون نشيطون، وكان لهم دور بارز في النشاط الوطني، فقد كان للأسرة دور في الدفاع عن القرية ضدَ الإنكليز والصهاينة، وبقيت تدافع عن أرضها وبيتها حتى اللحظة الأخيرة، لكن المؤامرة أكبر منهم ومن العرب جميعاَ.
بدأت رحلة المعاناة التي حملها أبناء فلسطين ومنهم أسرة الشاعر بالرحيل والغربة، وكانت الرحلة من ترشيحا إلى الجنوب اللبناني سيراَ على الأقدام، وتنقلت الأسرة في أكثر من قرية لبنانية، ثمَ إلى سورية فمدينة حلب، حيث استقروا في مخيم النيرب، الذي كان عبارة عن تجمعات عديدة، وكلُ مجموعة من الأسر تخصصت في غرفة.
كان عمر الشاعر خمس سنوات في حينها عندما بدأت رحلة العذاب، فقد تركت هذه الرحلة والمشاق التي عاناها أهله في نفسه أثراَ كبيراَ في نفس الطفل وساهمت في نبوغ الشاعر.
اجتاز محمود مرحلة الدراسة، وخلال هذه السنوات كان يكتب الشعر الموزون والمقفى، وينشر هذه القصائد في مجلة السنابل الحلبية، ثمَ سجل في كلَية الحقوق، وصار يواكب التطور الحداثي لمسيرة الشعر العربي، وبعد أن اجتاز المرحلة الجامعية آثر أن يعمل في (الأونروا) وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، في مهنة التعليم، فأمضى كلَ حياته في هذا السلك، ولم يكتف بالشعر ليعبَر عن المأساة التي حاقت بالشعب الفلسطيني، وانطلق إلى ساحة القصة، فقدَم نوعاَ جديداَ لها (القصة القصيرة جداَ) فكان أوَل من أطلق قصَة من هذا النوع، ونشرها في مجلة الطليعة عام 1966 تحت عنوان (الفدائي)، لقد تفوَق في القصة القصيرة كما تفوَق في الشعر.
ولا يكتفي محمود بأن يتوقَف الإبداع عند هذا، بل انطلق النشاط إلى النقد التشكيلي وكتابة المقالات النقدية التي نلمس روحه الشعرية تسيطر عليها، وقد تناول في النقد التشكيلي معظم الفنانين، أمثال: لؤي كيالي، فاتح المدرس، فتحي محمد، وغيرهم.
إنَ محمود علي السعيد يستخدم الكلمة / الصورة، بحرفية عالية، ويبثُ رسائله الشعرية عبر الصورة المكثفة ليرسم لنا عالماَ من الرؤى التي يعيشها الشاعر، فالصورة عنده رسالة صوتية تظهر الحنين إلى الوطن والألم الذي لاقوه في المنفى مع قسوة الاغتراب، يقول من قصيدة مولود يافا:
أبحرت دونك يا وطنــي في درب لا إنسانيــة
أعراس الموت هنا وهنا والنار تزغرد مرثيَه
ثمَ يناجي يافا ويدعوها بالأم، لأنها الحضن الذي يحمي الإنسان من الاغتراب:
يافا يا أمَي ضمَينـــــي ضمَيني ضمَة حنيــــــــــة
يافا لو حرفاَ أغزلـــــه في الغربة ذكرى ووصيـة
لقد نظم الشاعر قصائده على الموزون المقفى، كما رأينا في القصيدة السابقة، ثمَ كتب في القصيدة الحديثة، فنأخذ مثالاَ على ذلك من قصيدة (في داخلي يُفتَح المطر):
أحسُ يا حدائق الأحباب/ في داخلي يفتَح المطر/ عيونه تزخَ في عواطفي/ فيصدح الوتر/ ويحضر المشتاق/ من مسيرة اغتراب/ يعانق الربيع في عيون/ من يحبُ/ يغطُ في رحيقه/ أصابع الفؤاد، الخ.
وقصائده تتجلَى بالجدَة والدهشة، وتجلى ذلك في كلَ ما قدَمه من قصائد، وقد قدَمها بصور مبتكرة جديدة، ففي قصيدة ترشيحا أيقونة العمر، يقول:
إذا حكمت على النجوى مقايسة فهودج السبق يلقى فيك ترجيحـــا
إن أورق العمر في تجواله طرباَ رددتُ ملء جنون الشوق ترشيحا
وفي قصيدة أخرى نراه يحمل كلَ معاني الجدَة في المعاني والصور، يقول في قصيدة (ترشيحا قمر في هودج الليل):
هل تذكرين قصاصات توشحها في هودج الليل بالأشواق أقلامي
ترشيحة القامة المعطاء مفخرة كقلب طفل أوشَيها بأختامــــــــي
ويعبَر في كلَ قصائده عن حنينه إلى بلدته، الوطن الصغير (ترشيحا) والوطن الأم، فلسطين، يقول من ديوانه (شمس جديدة في ترشيحا):
” وتركض في الجهات الست/ تعلن أنَ غصن الماء/ غدت أوراقه الزرقاء/ عيوناَ ثرَة الأبعاد/ تحدَق في مرايانا/ فتطفو فوق ماء الوجه/ أشياء بلا أشياء”.
الصورة عنده تهتمُ بتكثيف التعبير، إنَه يقدَم أفكاره بكلمات قليلة تبرز الصورة الشعرية من خلال هذه الأفكار التي تحمل في مضمونها الكثير من المعاني، يقول في إحدى قصائده:
“أغصان الطين الرائعة الرؤية/ كنت أعانقها/ فأعانق الإنسان بوجه الطين/ ترشيحا / أنتظر إشارة دمع/ تتخطَى أبعاد المطلق/ طيَ الريح/ تطمئنني/
ما عدت أطيق من الشجرة/ جذراَ في التربة/ وغصوناَ في المنفى “.
ويتجلَى الرمز في شعره، وهو لا يحتاج إلى شواهد، لأنه موجود في كلَ قصيدة، وقد استطاع أن يجمع في شعره كلَ مفردات القصيدة الحديثة، بزخمها وتمايزها، مضيفاَ إليها العمق الوجداني الذي يسكن روحه ويجسد حبَه الأبدي وعشقه الدائم إلى وطنه البعيد عن عينيه والقريب من قلبه.
فتح محمود علي السعيد في عالم القصة نافذة جديدة، لم يكن معروفاَ من قبل، إنَه عالم القصة القصيرة جدَاَ، فاللغة الشعرية والتكثيف الحاد والومضة القصصية التي تختصر الحدث بكلمات قليلة تحدث انفجاراَ في ذهن القارئ.
نشر الكثير من المجموعات القصصية، وبلغ عددها أكثر من عشر مجموعات كانت بمثابة اللوحات الصاعقة التي تحمل في مضمونها ثورة مقاوم في وجه الاحتلال.
يعرض محمود علي السعيد في قصصه ثنائية الحب والأمل ويقابل ذلك الحرب والتدمير، ويكون الحب دائماَ عند فتاة فلسطين وتمثل الأمة والوطن، وفي الجانب الآخر يكون الحرب والدمار الذي تمثله إسرائيل، الدم والموت الذي ينزف من جسد هذا الوطن، والحنين الذي يمثله الفلسطيني إلى أرضه، وتحمل كلُ قصة الأثر النفسي الذي ينفجر دائماَ في وجه العدو، مع موسيقا داخلية التي تختزن روح هذا الأديب:
يقول محمود في قصة (القنبلة):
” فرطت الصبية الرمانة، وراحت تسلَم حباتها لشفاه الأسماك التي نشطت كرماح البرق كلَما لا حت في نسيج الزرقة وهي تردد: يحبني .. لا يحبني .. لا وابتسامة شفافة تمسح الشفتين كلَما انتهت دورة الأسطوانة بكلمة (يحبني) وإلا فأوركسترا الحب تكرَر العزف والتسجيل مرة ومرات، بينما السماء في الطرف الآخر من القصيدة البحرية تمطر دماَ أحمر وأزرق يغتسل تحت رشقاته َالمتلاحقة جنين فلسطيني يصرخ: وطني “.
وفي النقد التشكيلي يبحر السعيد في عالم هذا الفن، ويستخدم أدوات معرفية لم تكن معروفة من قبله، لقد ابتدأ بأعمال الفنانين الفلسطينيين، وأولهم كان صديقه الفنان محمد أبو صلاح الذي مات مبكراَ، فافتقد في غيابه جزءا من روحه الصادحة في عالم الجمال، إنَه يحلل بشكل رائع ومميَز توزَع الألوان في اللوحة، فالسديم الضوئي يغطي مساحة فيها، وهو يعبَر عن امتزاج الألوان في الطبيعة والحياة، وهو استعمال رمزي يسقطه على الأحداث والأرض المقهورة، فلسطين.
كذلك مع الفنان ناجي العلي الذي اغتالته يد الحقد في لندن، يقول محمود:
” يرقص ناجي العلي، رسام الكاريكاتير، على إيقاع نبضه المتلاحق بصخب سماسرة الرصاص والجثث والدم، بانتظار أن تدق ساعة فصل الحصاد فتنقشع الظلمة، ويشرق الضوء من جديد، ويبقى الوطن سيد الموقف، ترصد ذائقته المرهفة الإحساس، رقعة الأرض المستلقية ما بين الجرح والسكين، قوساَ وفاصلة لتكون الاستجابة السريعة المميزة بالمهارة والفهم، معادلاَ موضوعياَ للرصاصة والكلمة.
التضاد المشتعل في سيرة اللونين: الأبيض والأسود، الناطقة الصامتة، عبر مدَخرات ورموز وأبجديات، كلُ واحد يفصح عن علاقة جدلية غاية في التوازن والإحكام، ليشمخ فن الكاريكاتير العربي بسنديانة استبسل جاهداَ فأس الحصار والموت أن يشرخ أغصانها “.
إنَه يمثَل العذاب البشري المطروح على قارعة الغضب المدمَى والقهر المسحوق، إنَه نشيد الرفض الأبدي لكلَ أسلحة التآمر والحقد، هكذا يمضي صاحب القلم الأصيل، إنَه مخلص في حبَه للإنسان، وكرهه للذين احتلوا بلاده وشردوه وأهله عنها.
مجلة قلم رصاص الثقافية