نورس علي |
انطلق الباص.. وبصرير عجلاته العريضةِ راح يدلّكُ ظهر الشارع الحزين. المسافة الممتدّة بين منطقة المزّة والحدود اللبنانيّة ليست بالطويلة جدّاً، ولكنَّها تبدو كأنها بانوراما أخيره يحضرها الراحلون، لاشيء مميّز في هذه البانوراما.. هي أشبه بالشارة الختاميّة التي تظهر عند نهاية كلِّ فيلم، لاشيء مثيرٌ للاهتمام، فقط أسماء ومهام من كانوا مشاركين في إعداده، كذلك هي تلك المسافة بين المزّة ومنطقة “جديدة يابوس” الحدوديّة التي يقابلها “معبرُ المصنع” في الطرف اللبناني.
رحتُ أجيلُ نظري داخل الباص، لا توجدُ امرأةٌ فيه أو فتاة، كلُّ ركّابه هم من الشبّان في مقتبل العمر، تتراوح أعمارهم مابين سبعة عشر عاماً وخمسة وعشرين عاماً. أحدُهم يلقي برأسه على حافّة النافذة وينظر في معالم الطريق المتبدّلة، آخرٌ يحدّثٌ رفيقه الجالس إلى جانبه، لا أستطيعُ سماع ما يقولونه، يبدو كهمهمةٍ عديمة المعنى، تقتلها أصوات العجلات الممزوجة بصوت المسجّلة المنخفض، كان السائقُ قد اختارَ فيروز، كما العادة لصباحٍ سوريٍ بسيط، فيروز التي تهمسُ في آذاننا المتعبة: تعا ولا تجي..
خلف الشابّين جلس شابٌّ آخر بدا منهمكاً في البحث بين مجموعةٍ من الأوراق، أوراقٌ تعلوها عشرات الأختام، أختامٌ بألوانٍ متعدّدة، تارةً يخرج جواز سفره ويتصفّحه كمن يشاهده للمرّة الأولى، وتارةً يخرج بضعة أوراق مضمومة إلى بعضها البعض بمشبكٍ حديدي صغير ، ويقلّبها واحدةً واحدة، وتارةً يعيد ترتيب جميع أوراقه مرّةً أُخرى في ظرفٍ ورقيٍ كبير. إلى جانب ذلك الشاب المتوجّس جلسَ شابٌ آخرٌ أسندَ رأسَهٌ إلى زجاج النافذة ووضع في أذنيه سمّاعتين، ربّما كانتا تبثّان مجموعةً من أغانيه المفضّلة وربّما لم تبثّا سوى الصمت ـ ولا شيء سواه. ورءاهما جلسَ شابٌ وحده إلى جانب مقعدٍ فارغ، كان قد قام باستغلاله بوضع حقيبته فوقه، ثمّ مالَ عليها كوسادةٍ ليكمل نومهُ الذي قد قطعهُ لأجلِ هذا السفر الطويل.
أمّا أنا فقد رحتُ كعادتي أتفحّص الباص وراكبيه، أنظرُ حولي كطفلٍ يرى الحياةَ للمرّة الأولى، إلى الأعلى إلى الأسفل، يمنةً ويسرى، عادةَ ما أفعلُ ذلك كلّما تواجدتُ في محيطٍ غريب، لم تكن تلك المرّة الأولى التي أركبُ فيها الباص، ولكنَّها كانت المرّة الأولى التي يقلّني فيها باصٌ ما، بعيداً عن كلِّ شيء..
حاولتُ أن أقلّد الشاب الذي قد أسند رأسه إلى زجاجِ النافذة، لم أرد النوم، لم أكن لأستطيع فعل ذلك على أي حال من الأحوال، أردتُ فقط أن أستجمع أفكاري قليلاً. لم أنجح بفعل ذلك، فتلك الاهتزازات الحثيثة التي تعبر هيكل الباص المعدني، تستمرُ في رحلتها عبر زجاج النوافذ، فتُشعرك بأنّ هزّةً أرضيّةً تعبر في رأسكَ كلما حاولت إٍسنادهُ إليها. آلاف الأفكار المتدافعة أرادت أن تجد مكاناً لها للجلوس في مسرح رأٍسي تلك اللحظة، لكنّني آثرت أن أطلب منها الانتظار ريثما أقطعُ تلك الحدود، نحو الفضاء الآخر، فضاء المجهول والبداية الجديدة.
قاطعت أفكاري وقفةٌ مفاجئةٌ للباص، حاولتُ النظر عبر النافذة، كان هنالك طابورٌ متوسّط الطول من السيّارات والشاحنات التي تقفُ عند نقطة تفتيشٍ عسكريّة. لم يقل السائقُ شيئاً أو يُشر إلينا بتجهيز أوراقنا الثبوتيّة، يبدو أنّه كان يعلمُ بأنّ هذه النقطة – بحكم خبرته السابقة – لا تطلبُ أوراقاً ثبوتيّةً من أحد، فهنالك الكثير من نقاط التفتيش الشكليّة، وأحياناً يكون الغرضُ من بعض نقاط التفتيش هو أخذ ” الأتاوات ” أو “رسوم العبور” التي يفرضها أصحابُ النقاط بأسلحتهم دون خوفٍ من أحد . لا يبدو بأنّ تلك الحالة كانت كذلك في ذاك الموقف، فالنقاط العسكريّة على طرقات السفر، وخصوصاً نحو لبنان تتمتّع بوضعٍ أمنيٍّ خاص، و لا يفتحُ فيه المجال عادةً بشكلٍ كبيرٍ للاجتهادات الفرديّة من أيّ نوع، نظراً لموقعه الحرج وأهميّته الكبيرة كطريقٍ دولي.
وبالفعل لم يطل ذلك، راحت السيّارات شيئاً فشيئاً تعبرُ نقطة التفتيش، خلال دقائق معدودة حان دور حافلتنا، أنزل السائقُ زجاج نافذته الذي كان قد أغلقه بغية الحفاظ على الهواء البارد داخل الباص، فالجوُّ الحارُّ يومها كان يُشعلُ الإسفلتَ منذ الصباح الباكر. اقترب من نافذة السائقُ شابٌّ بملابس عسكريّة، يحملُ في يده بندقيّةً رشّاشة من نوع ” كلاشينكوف”، يدعوها السوريّون “روسيّة ” نسبةً إلى بلد التصنيع الذي اشتهرَ بها. تبادل الشابُّ المسلّحُ والسائقُ بضع كلمات، لم تبدُ لي أيّة تعابير إيجابيّة أو سلبيّة على وجه الجنديّ الشاب، ثم فجأةً انفجرت ضحكةٌ بينهما، لم أعرف سببها، ولم أهتمّ حقّاً لذلك، كلّ ماكان يهمّني هو أن نعبرَ بسلام، وبالفعل، لم تكد تنتهي تلك الضحكة حتّى طرق الشابُّ بقوّةٍ نسبيّةٍ على جانب الباص الحديدي، في إشارةٍ إلى السائق لكي يتابع مسيره. عدتُ إلى أفكاري السابقة، تفحًّصتُ ركّاب الباصِ مرّةً أُخرى، يبدو بأنّني كنت الوحيد الذي اهتمّ حقاً بما كان يجري، أمّا البقيّة فبقوا إمّا نائمين أو هائمين بأنظارهم نحو المجهول، أو مشغولين بأحاديث غامضة المحتوى بالنسبة إليّ فيما بينهم.
فقط “فيروز” كانت قد غيّرت وجهتها من “تعا ولا تجي” إلى “يا جبل البعيد” وراحت ترنّم بصوتها ملائكي: بعدو الحبايب.. بيعدو .. بعدو الحبايب ..!!
شاعر سوري ـ ألمانيا | خاص موقع قلم رصاص