هل الحيرة حركة على ما اعتاد المقترح الصوفي ترديده، أم هي واقع مجرد تردد بين المتاح والمشتهى؟ ربما كانت الحيرة في هذا العالم العربي الثالث والأخير واقع مضاف الى جميع الترديات الثقافية، والفوات التمدني، والإحباط الحضاري، فما نحن واقفون عليه من “كنوز” ثقافية وسلوكية، لا يصلح حتى للتذكير بشرعة حقوق الإنسان (الغربية الإستعمارية إلخ).
والحيرة توجد من تراكم مخلفات الأسئلة المؤجلة، حتى يستتب “لا يصح إلا الصحيح” تلك الخاتمة القدرية لأي حديث أو حوار، وفي كل مرة نؤجل (نحن مهما نكن) نركل الكرة الأرضية على قفاها محفزينها على إنتظارنا حتى نحسم إجاباتنا “ويصح الصحيح”، والصحيح في حالنا ينتظر حسم المعارك الوهمية والواقعية، لكي نبدأ من جديد حيرة جديدة مثقلة بالمجاكرة والتحاقد وتوعد الآخر، إلى حين إكتمال صحوتنا الباهرة.
والسؤال المحير الآن: هل نحن على أعتاب حضارة جديدة؟ تختلف فيها المعايير مرة أخرى، ويصبح استيعابها أقرب للمستحيل؟
يبدو أن الموضوع جدياً ككل مرة تظهر فيه مؤشرات واضحة وبإيقاع متسارع، على حدث جلل قادم علينا إتخاذ موقف واضح منه، بمعنى التعامل معه أو المشاركة به (العولمة مثالا والحداثة وما بعدها أيضا)، متلقفين في كل مرة كرة نار، نحتار كيف نتعامل معها فتحرقنا مخترعين يوتوبيا ثقافية تزيد من إشتعالها كما تزيد من إحتراقنا، إذ لم يحدث ولا مرة في تاريخنا المعاصر (ما بعد العثماني على الأقل) أن حللنا قضية مجيبين على أسئلتها، كما لم يحدث مرة أن انتصرنا على كرة النار بإطفائها أو برميها على ملقيها، أو مجرد رميها بعيدة عنا.
المؤشرات اليوم تقول أننا أمام حضارة جديدة…!!! أو بلغة أخرى نحن أما حصاد العصر الرقمي المتوج بتكنولوجيا الاتصالات، حيث يقبع العلم في فضائها “الإفتراضي” منتظراً تحويله إلى معرفة للعيش فيها، والواقع الثقافي الحالي المعمول به ( على الرغم من غربية أصوله)، أصبح قديماً ومهترأً من سوء الإستعمال، فما بالنا بمؤشرات تفضي إلى حضارة جديدة تماما؟.
ما هي ردود الفعل المحتملة على هذه المؤامرة الغربية اللئيمة؟ ونحن في كرة أرضية لا تتجاوز مساحتها رأس الدبوس بالنسبة إلى الكون وأجرامه؟ خصوصا أننا إما معرفة تتطور بأنساق كثيرة كل ثانية أو حتى أقل؟
أعتقد جازما….. لست جازما كثيراً… بل لنقل متردداً…أو محتاراً…أو لست فاهماً… وغالباً لست قادراً على الفهم…. ولكن أصر أن أعتقد جازما بأن ردة الفعل الأولى، هي نقد الاستشراق… أو الرد عليه أولا ومن ثم نقده… أو لربما تأسيس علم الإستغراب نكاية (جكر) بهم …. أو دعونا من هذه وتلك دعونا نثبت لأنفسنا بأننا لسنا كما رأانا المستشرقون…. أو لنقل أن التأسيس لهذه الحضارة الجديدة بدأ مع تزييف الحقائق إستشراقياً… ولنبدأ الخطوة الأولى على طريق الألف ميل حيث “لا يصح إلا الصحيح”. ومع إعتقادي الجازم هذا بخصوص الاستشراق، أتردد قليلاً في أولوية مسألة ألإضاءة على خصوصيتنا وعراقتنا، خصوصاً أن العلماء والفلاسفة ” العرب” قد سبقوا الغرب، وسجلوا أسمى أيات الإبداع في الجبر والفلسفة وعلم الآثار إلخ…. ولكن لحظة….. علينا التوقف قليلاً حتى ننهي ما بدأناه في خضم القرن العشرين، فالنقاش لم ينته بعد والقضايا لم تغلق “والصحيح لم يصح بعد “! فكيف لنا أن نعنى عناية جدية بما استجد قبل أن ننهي ما بدأنا به؟ ومن الواضح أن العالم يغافلنا ويتطور ولكن بنوايا سيئة اكتشفها عنترة والزير أبو ليلى المهلهل! وعليه الآن أن ينتظرنا إذا كان له من الحضارة والإنسانية مثقال ذرة، إذ هاهو في مجتمعاته لا يحترم لا حقوق الإنسان ولا الديمقراطية التي أقترفهما، ونحن لسنا مضطرون لمجاراتهم بهكذا خزعبلات وأمراض نحن في غنى عنها، فقد عشنا مدنيتهم من دون عناء الإيمان بهكذا “شغلات” تؤدي إلى أمراض عضالة، أقلها الإسلاموفوبيا، التي تعود جرثومتها الى فتح الأندلس ومن ثم القسطنطينية وانتهاء بغزوة منهاتن ومقتلة مترو باريس ولندن وغيرها كرد على الحروب الصليبية التي أتت إستكمالاً لإحتلال الأندلس أو ما يسمى إسبانيا الحالية إلخ.
طبعاً يمكننا الإستمرار بهذا الحديث الجازم! بحيرة وتردد إلى ما شاء الله، ولكن مؤشرات ولادة حضارة جديدة لما تزل تقرع الأجراس، فالترهل الثقافي للحضارة كما خبرناها في القرن العشرين يحتاج الى الكثير من شد العضلات للتجاوز ضعفها الأني، وتغير المجتمعات رويدا يأتي تحضيرا لهذه الولادة، وتغير المجتمعات مرهون بالإرتقاء المعرفي المغيير للثقافة المجتمعية، وبالتالي تغيير السلوك البشري ضمن هذه المجتمعات، بمعنى إعفاء القديم من مهماته وأدواره في تشكيل السلوك (الذي يسمى عادة القطع مع الماضي وهي تسمية مرعبة للعرب)، ومن مؤشرات هذا التغيير الأولى هي عدم مقدرة التقنيات على تلبية حاجة مستعمليها، (الإحصاء مثلاً) ما يؤدي الى القطع معها إرتقائياً، فمشاكل الحضارة المعرفية تعالجها المعرفة، دون الحاجة إلى علم الإستغراب المشرقي (المجاكر لعلم الإستشراق الياباني أو الصيني!!). ولكن هل لهذه الحيرة ولهذا التردد الذي يعبر عن تشتت عقلاني وفوات حضاري من منتهى؟ لا أظن ذلك والظن إثم كله…..
طبعا لكل هذا الفوات المعرفي أمثلة وتطبيقات كثيرة جداً قد لا تخطر على بال عاقل، وكلها تنتمي إلى أصناف الكوميديا التفكيرية السوداء أو الملونة بألوان الهوى العقائدي، وكلها من خارج المكان الدنيوي، حيث السؤال الفلسفي المجدي يصبح فاقدا للأهلية والصلاحية معاً، خصوصاً الأسئلة التي تم طرحها في القرن العشرين والتي أجابت عليها معظم المجتمعات الأرضية، هذه الأسئلة التي لم نتم قراءة سطرها الأول فجرت سجالاً لغوياً لافتاً وفي انتظار حله، يكون “المستشرق” قد وصفنا بما نحن عليه، أحببنا ذلك أم كرهناه، ولكنه حقيقة بنت دوله خططها على أساس رؤيته هذه، ونجحت في إنفاذ مخططاتها وأسألوا في ذلك المستشرق الأكبر كيسنجر وأستاذه زبغينو بريجنسكي جول هذا النجاح .
والظن هو غير الشك المعرفي، ربما نتفاجىء بمعجزة ما، ولكن حتى هذه اللحظة لا يبدو الأمر مبشراً.
لا…. لن نستطيع الخروج من هذه الثقافة المستعملة (بالة) بعد هذا القبس الضئيل من الملاحظات الجازمة، وليس علينا إلا أن ننتظر أن يصح الصحيح الذي نتخيله على طريقة الزيرسالم …… كليب حيا.
مجلة قلم رصاص الثقافية