هديل انديوي |
“أيُّ جريمةٍ بحاجةٍ إلى مخيّلة”
هكذا قال أحدُ أساتذتي الّذي مازال يكتب عن هجرة الخراتيت من الكوابيس للشّاشات والّذي لم يكفّ للآن عن محاولةِ إقناعها بأنّ الحريّة لا تعني الرقص في بحيرة البجع.
أمن المعقول أن ترقصَ الخراتيتُ وحيدةً وتتجاهلَ كلّ هذا اللحم أمامها! هنا يتنكر الجسد ويصبح اللحم مصدر إلهام. هنا تُفرغ الخراتيت شبقها، ميّالون للضوء، يغتالون المدينةَ بالشّبقِ، تواقون للشّبق كما هم تواقون للشّعر…
(في البدءِ كانت المخيّلة)، أكلُّ الخراتيت شعراء؟!
تدّعي الفضيلة لتبيح لنفسها الخيال والشّعر، هم حصيلة شعر، ما كانت تكفيهم كلّ هذه الأنوار ولا حتّى هذا الرقص، وجودَهم يعتمدُ على إبقاءِ التّاريخِ منتشياً، هذه المرأةُ الشّهوانيةُ الملولةُ جداً لا تكفيها مشاهداتٌ ومُخيّلاتٌ قليلة. الخراتيت لا يشبهوننا، الخراتيت أحرارٌ لدرجةٍ تتخطى مخيّلتنا.
إنّهم القدر وحين يشاؤوا نشاء، نقرئهم بتمعنٍ، الوجهُ مترهلٌ، كاذبٌ، ساخرٌ، هم الحاضرُ والغائب، تواقون للدهشات واللعنات. مهلاً! هناك فائض من اللحم يكفي لجميعنا، حيث تلتحف داميةً، مشرّحةً بالشّوكِ، اللعنة، اللعنة على الأعوام السّتة فقد كنّا جميعاً رجالاً, وأطفالاً، ونساءً هائجين ليس في وسعنا إلاّ أن نكره أمّا الذّاكرة فهي أكثرنا انتصاباً.
ما يحصل الآن، هو أنّ المدينة تصعد، تلتف، تهوي، تمتد، تتلاشى، تُخلق، تتنفس برعشات هائلة من الضوء، إنّها تضاجع، تنمو بسرعة عاجزة عن ضبط إيقاعها، نضجت، تنضج. استمري، استمري أكثر، تهديداً لكلّ من قال دمشق الياسمين، إنّها تنضج، لا تخجل، هي بغي تجيد فتح أفخاذها، تواقةٌ للنضجِ والتهام المخيلات. تتشكل جسداً أسمر شرقيّاً، الياسمين ليس حلاً، تدفق من ظهرها حتّى أصابع قدميها، يتدفّق شلالاً، ينتهي خشوعاً لتنضج، تتفجر
بالشّمس، راقصةً تستثيرها لغة الخراتيت، حمراءَ شهيّة مقطرةً تضجُ بالشمسِ، برغم بلاهة الخراتيت فشعرهم وباءٌ جميلٌ عنيفٌ، حيث هناك الخيال وهناك الجريمة.
مدينتنا أكثرنا عريّاً، أكثرنا انتحاراً للألم اللذيذ، يتكرر،اللعنة إذ تكرر فبقيت خطوة واحدة نحو الخدر، نحو النوم وينتهي كلّ شيء. ألكلِّ هذا الألمِ و القسوةِ احتاجت مُخيلةُ (نيرون) ليعيشَ حلّمَه ؟!!
زمننا يصلح للمتعة، يصلح للموت, مدينتنا عاريةٌ جميلةٌ شبقة، تبتلع الخراتيت، تبتلع القادرين على الحلم، على الخيال، على كتابة الشّعر، لطفاء متوحشين في طريقة قتلهم، يحولون الوحل لقصائد، يمددون الوقت، يتكاثرون، ونتكاثر قبوراً بلا دهشة، نحن خطايا الشّعر، دخلاء على تفاصيل الحياة البسيطة المتكررة، نرهب الوجود بغيابنا، الخراتيت يستبقون الحضور ويحتجون على افتقارنا للمخيلّة، يا للبلاهة إنّه موسم القواميس الجديدة.
أتعلمونَ ليذهبَ كلُّ شيءٍ للجحيمِ؛ البنوكُ، كراسي الحدائق البنية القذرة، الطرقاتُ، أبوابُ المنازلِ الخضراءِ الحديديّةِ، باصات النقل الدّاخلي النتنة….
كلُّ شيءٍ. لِتُصبحَ الأرضُ خواءً، إنّها تَرغي بلا جدوى، مدينة الصّابونِ، وكلُّ الأجسادِ تَذوب هنا. لوهلة نخاف، ننشطر احتجاجاً مع انشقاق كلّ فجر، نتزين بالريش بإكراهٍ، الخراتيت كنرسيس سقطت نيّئة ومتكورة، الخراتيت رجال بخصيّ منتفخة، علقت بين أفخاذ مدينتنا، العالم ينتهي، ينتقل على كلّ المشاهد، على كلّ الأضلع، وقحٌ، نيّئٌ، ينتهي بحزمةٍ كبيرةٍ من الضوء، نحن أنصافُ موت وأنصافُ حياة، نحن ثمار الخطيئة محكوم علينا بالحياة نصف، وبالموت نصف، مدفوعون للخارج كفقاعة هواء فارغة، نحن نقصٌ في الضوء غير مكتملين، أنصاف نطفةٍ، المسونا على مهلٍ فننتفض ضوءً وريحاً، مدينتنا وقحة ترغمنا على الخطيئة، “نحن خطايا الضوء والريح”، هكذا قالوا حيث البحر يُستعصى على اللمسِ، والضوءُ رحمٌ فارغٌ، نتنشقُ ضوءً، نزفرُ ضوءً و توتاً، ندندن حزماً كبيرةً من الضوءِ. إنّنا نهوي جسداً وضوءً، جميلين، أسمى من نطفة، العميانُ بيننا وحدهم يرقصون حجارةً ولعاباً، يهتزون فؤوساً وموسيقا، وحدهم مدركين أنّ الخراتيت إنسانٌ تعالى.
دمشق | خاص مجلة قلم رصاص