بيان أسعد مصطفى |
لم ترغب أن تواجهها أية مصادفة من شخص غريب أو أشياء تجاورها وتشترك معها نفس الحيز، بعد هذه العزلة التي دامت قرابة الشهرين في غرفتها بين الكتب وأشرطة الموسيقى الكلاسيكية والأفلام المتنوعة، وأنفاس عائلتها التي تتصاعد كأدخنة القطار جهلاً لما يحدث معها، كانت ستحتفي إن جاء خبر مثير على الراديو الذي ربما ستستمع إليه في التاكسي الذي سيقلها إلى وجهتها، وما دون ذلك سيكون بالنسبة إليها محضَ حماقة.
أشارت بيدها إلى التاكسي، كان السائق كبيراً في السن، رأسه باذخ في الشيب، والتجاعيد تعلو جبينه، يبدو على هيئته. أنه شخص عصبي وورع، لم يكن يضع أي شريط أو أية إذاعة، الصوت الذي يُسمع فقط هو انثناء الحديد كلما صعد على مطب أو اصطدم بحفرة، لقدم سيارته. لم يزعجها ذلك الصوت أبداً، فقد كانت تريد صوتاً يعلو على صوت أنفاسها وتفكيرها الذي ما هدأ، تريد لهذا الصوت أن يطغى على أي موضوع يمكن أن يفتحه معها ذلك السائق. صارت تتفقد هيأته ووجهه في المرآة فاطمأنت إلى أنه لن ينطق أية كلمة زائدة معها. ساعدتها النظارة الشمسية أن ترى الأشياء والأشخاص بوضوح رغم الغبار القليل الذي يعلو عدساتها…كانت تراهم بنفس الوجوه ونفس إيماءات الحزن والفرح والغرابة أيضاً.
توقف السائق فجأة وأدخلت سيدة وجهها عبر النافذة تسأله إن كان في طريقه إلى شارع ما، لم تركّز على اسمه بقدر ما ارتبكت من تصرفهما. فتحت السيدة الباب الخلفي، أزاحت بعدما انزلقت يدها عنه إذ كانت (ترتكي عليه)، لم ترغب في أن تثار عصبيتها من هذا السبب فأشاحت بوجهها، وعادت تنظر عبر النافذة إلى أشياء شهية.
للحظة خافت أن تفتح معها هذه السيدة أي حوار؛ أن تسألها مثلاً عن وجهتها، صارت تضع أجوبة كثيرة لذلك السؤال: “إلى المقهى لأجلس قليلاً مع نفسي وحسب وأراجع ما مضى. لا ستحسبني حمقاء.
آه لم أتحدث منذ فترة مع أحد عن أشياء عابرة كهذه! حسناً سأخبرها أنني سأقابل أحداً في ذلك المقهى. ماذا لو ابتسمت بوجهي؟ هل عليّ أن أجيبها عن كل أسئلتها الكثيرة وأن أبادلها الابتسام؟! ماذا لو سألتني عن الوقت؟ هل أجيبها مع ابتسامة وأنظر إليها أم أجيبها فحسب؟ ماذا لو ظنت أني متعجرفة؟ لا سأبتسم لها…آمل أن لا ينجم عنها حوارٌ لا ينتهي….سأضع السماعات في أذني وأستمع إلى شيء ما وأتحاشى بذلك تلك الحوارات التي تدعوني غالباً للتقيؤ وخاصة هذه الأسئلة الساذجة التي يستخدمها أغلب الأشخاص لإنشاء علاقاتهم، تلك العلاقات العابرة التي نخطئ دائماً فيها لأننا لم نقم باختيارها بل الصدفة وحدها ما جمعتنا بهم، الصدفة فقط من شأنها أن تدمّر الكون، إنها عبثية قميئة تضطرنا للمبالغة في كل شيء؛ في الضحكة مثلاً أو التأثر بشكل عام تجاه أي موضوع يفتح، إذ نخرج عن إرادتنا ليرضى هذا الطرف الجديد.
أغلب صداقاتنا تبدأ هكذا وتنتهي كما بدأت بغرابة وبلا رجعة”.
راحت تنظر من النافذة إلى أشياء أقل تعقيداً، ترنّ في أذنها أغنية:
(Solitude) لـ(Nina Simone)
I sit in my chair
Filled with despair
Nobody could be so sad
With gloom everywhere
I sit and I stare
I know that I’ll soon go mad
……..
كان الهدوء يعمّ المركبة، لا يسمع إلا طقطقتها وأنفاس ثلاثتهم؛ كل منهم في اتجاه، صارت تعدّ الأمتار التي توصلها إلى المقهى، ضجّت أثناء ذلك كل ذاكرتها وبدأ القلق- في أن ينتهي هذا الموقف- يطغى عليها (في أن لا تسمع صوت هذه السيدة أبداً)…
فجأة نطقتْ ونقرتْ على يدها: “يا آنسة…”
تجاهلتْ نداءها في أول الأمر متظاهرة أنها لا تستطيع سماعها، لكن عندما زاد النقر وتكرر النداء نظرت إليها متسائلة. قالت السيدة: لو سمحتِ ابتعدي عني قليلاً، أنتِ تلتصقين بي. ألا ترين؟!
قاصة أردنية | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية