“إني أتنفس تحت الماء”
أعد برنامج تقييم الموارد المائية في الأمم المتحدة تقريراً ذكر فيه أن العالم سيواجه نقصاً في موارده المائية بنسبة 40% بحلول عام 2030م، وأن هناك أكثر من 748 مليون شخص محرومون من الانتفاع بالموارد المائية، ولا سيما الفقراء والمهمشون، وأن العالم سيعاني من أزمة ماء حقيقية ما لم تغير الدول سياساتها في كيفية إدارة هذه الموارد في قطاعات الإنتاج والزراعة، ومحاولة إيجاد سياسات جديدة في التعامل مع البيئة، إلا أن هذه المخاوف السابقة عاشتها مدينة حلب السورية على أرض الواقع، وعليه نستطيع القول: إنها سبقت عصرها، واختبرت مستقبل الكرة الأرضية فعلاً، يقول ابن خلدون: “الماضي أشبه بالآني من الماء بالماء”، سيتذكر أهل حلب هذه العبارة عندما تتفشى أزمة المياه في العالم!
اشتهرت حلب بقنوات المياه والقساطل، ولعل أشهرها قسطل حرامي، وكانت قديماً تُروى من عين التل وينابيع حيلان ونهر قويق، الذي جف بعد أن أقامت تركيا سداُ عليه عام 1950م، و تمّ جر مياه نهر الفرات إليه في محاولة لإحيائه مجدداً، يقول ياقوت الحموي عن حلب: “مدينة عظيمة، واسعة، كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء”، وأورد الأسقف أردافازات سورميان في كتابه “تاريخ حلب” الآتي: “يقول ابن الخطيب: “جلت العالم شرقاً وغرباً، ومددت بصري من طرف لآخر، فلم أجد في أي مكان على وجه البسيطة أفضل من حلب، وأعذب من مياه نبع قويق”، كذلك وجد القاضي نصر الدين الباريزي -الحموي الأصل- مياه حلب أخف من مياه نهر النيل، ورأى الرحالة خليفة بن حاج أبي بكر أن مياه حلب هي الأجود مقارنة بمياه الفرات والنيل”، وقد وردت في الكتاب ذاته آراء لابن شداد، وابن الشحنة، والغزي عن الموضوع نفسه، ومن الفريد أن الأخوين البريطانيين راسل ألفا كتاباً بعنوان: ” تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر”، تحدثا في قسم منه عن الماء في مدينة حلب.
عانى المدنيون في مدينة حلب من انقطاع الماء لفترات طويلة، والتي قد تنعدم تماماً في مناطق أخرى بسبب تضرر شبكات المياه ومحطات الضخ نتيجة القصف والقذائف، وفي حين تتقاذف الأطراف التي تتقاتل في حلب مسؤولية تعطيش السكان، قد بات من المؤكد أن المياه استخدمت كسلاح من جميع الأطراف، واعتبرت ورقةً رابحةً للضغط على الطرف الآخر عن طريق المدنيين الذين يعيشون في المنطقة الخاضعة لسيطرته، وبات حالنا “كالعيس في البيداء يقتله الظمأ والماء على ظهره محمول”، وكان حفر الآبار هو الحل الوحيد الذي قام به السكان بشكل فردي في الحارات السكنية، أو في الجوامع، وتوجّب عليهم أن ينتظروا في طابور طويل ما لا يقل عن أربع ساعات حتى يملؤون البراميل الصغيرة بالماء، ويحملونها على ظهورهم، أو يجرونها بعربات بدائية للمنزل، ومن ثم يصعدون بها إلى الطوابق المرتفعة، وقليل فقط من كان يستطيع أن يشتري الماء من الصهاريج، ويعبّئ خزّان المنزل، نظراً لعدم توافرها أولاً، ولجشع أصحابها ثانياً.
تشارك شقاء تأمين الماء يومياً الرجال والنساء والأطفال على حد سواء، مع أن هذه المياه غير معقمة، وغير صالحة للشرب، لكنها ضرورية للتنظيف، وغسيل الملابس، والاستحمام، وهذا لا ينفي أن كثيراً من الناس قد أصيبوا بالتسمم نتيجة شرب المياه الملوثة، وبخاصة الأطفال، عدا عن الأوبئة والأمراض التي انتشرت بالمدينة نتيجة شح المياه، أما ماء الشرب الذي يأتي لمدة قد لا تتجاوز الست ساعات، فكان مثل مفاجأة مدهشة، أو حتى كالعيد، بل أن من ينقل خبر قدوم الماء كمن ينقل بشرى عظيمة، مع أن هذه الساعات كانت عملاً متواصلاً لإنهاء المهام السابقة، إضافةً إلى تعبئة الأواني والأوعية والطناجر والبراميل التي تكدّست في كل بيت، يقول مثل فارسي: “في بيت النملة تصبح قطرة الماء طوفاناً”، كيف لا، وقد أصبح الإنسان هو الضئيل في هذه الحرب أمام أربابها، الذين ضخّموا كل شيء في أيديهم حتى قطرة الماء!
أتذكر كيف كنت أغسل الأطباق، فأسكب الماء بكمياتٍ صغيرةٍ جداً في محاولة للتقنين، وكيف كنت أمسح الأرض بكأس ماءٍ بعد أن أنثر قطراتٍ متفرقةٍ هنا وهناك في محاولاتٍ بائسة لإزالة طبقات الغبار، وكيف كنت أستحم بوعاء ماءٍ صغيٍر لا يتجاوز العشرة لترات، وهذا يعني أن أستخدم القليل من الشامبو فقط على شعري، و أحسب تماماً مقدار الماء الذي أريد أن أسكبه علي، وكيف كنت أخبئ زجاجة ماءٍ تحت سريري لحالات الطوارئ إذا نفدت مياه الشرب من المنزل، لأشرب رشفة ماء واحدة في أيام القحط تلك، وأنا أستحضر كل المقالات التي قرأتها عن ضرورة شرب لتيرين من الماء يومياً للمحافظة على صحة جيدة و بشرة نقية! كنت أفعل هذا لأنني لا أتحمل أن أشرب مياه البئر المالحة، ولو تم غليها كي تتعقم، وعندما أعجز تماماً عن أن أفهم ما الذي يحدث في سورية، كنت أردد عبارة نيتشه: “أعليكم حقاً أن تملّحوا حقيقتكم إلى أن لا تعود قادرة على إرواء العطش”!
في أحد الأيام وفي الفترة التي طال فيها انقطاع الماء، ابتكر جيراني حركةً نوعيةً لضخ المياه إلى منزلهم المقابل لمنزلنا، والذي يقع في الطابق الأرضي، فقاموا بوصل خرطومٍ طويلٍ من البئر القريب منّا في الحي إلى داخل حمام المنزل، واستطاعوا تشغيل الموتور المخصص لسحب المياه من البئر لأنهم يملكون مولدة كهرباء، وبالمصادفة رأيت جارتي الكبيرة في السن عند مدخل الباب، وتبادلنا أطراف الحديث، فأخبرتني أنهم قاموا بفعل ذلك لأنهم يريدون الاستحمام، لا أدري من أين جاءتني الجرأة لأطلب منها الاستحمام لديها بعد أن ينتهي الجميع، قلت لها: إن رائحتي سيئة للغاية ولا ماء في البيت، وغداً لدي يوم عمل طويل في المدرسة، وهذا الأمر يؤرقني، فقالت لي بلهجتها الحلبية:”يا بنتي كلنا أنشحنا”! وبالفعل دقّت عليّ الباب بعد حوالي الساعة، فأخذت أغراضي، ودخلت لأستحمّ في بيتٍ غريبٍ لأول مرة في حياتي، كان الماء الذي يغدق من الخرطوم بارداً لأنه من البئر مباشرة، لكن وفرة المياه وغزارتها جعلتني أغني داخلياُ بسعادة: “إني أتنفس تحت الماء، إني أغرق، أغرق، أغرق”!
مجلة قلم رصاص الثقافية