خليل جاسم الحميدي |
كانت مدينة الرقة، في الخمسينات، بلدة كبيرة، تحف بها الأسوار الطينية، وأطلال المساجد، والحفريات الأثرية، وبقايا القصور والقلاع المهدمة، وتختزن في ذاكرتها تاريخاً من الملاحم والأسماء والانتصارات هي كل مجدها في واقعها الراهن الهزيل، وفي إغفاءتها الواهنة على ذراع الفرات.
حياتها موزعة بين البداوة والحضر، وحكاياتها هي سلوتها الوحيدة في نهار العزلة، وليل الملل الباهت واليائس، وهي حكايات يتداخل فيها الواقع باللاواقع، والتاريخ بالخرافي، والأسطوري بالديني، والمخيال بالحكمة، قتلاً للوقت، وكسراً لرتابة الواقع وتجميله، وترطيب قسوته، وإخراجه من بلاهته وسكونيته، فإذا الحكايات هي الحياة، وليست البديل عن الحياة الباهتة والمملة.
في ذلك التاريخ لم يكن في الرقة نوادٍ ولا دور سينما أو منتزهات، وقليلة هي البيوت التي تملك مذياعاً، وتعد على أصابع اليد الواحدة، وهي بيوت ذات يسر، ووجود المذياع عندها كان دليل ترف ومكانة اجتماعية، وفي أيام الجمع يجتمع الناس في تلك البيوت منذ الصباح للاستماع إلى أغاني الحضيري أبو عزيز، وفي الليل تمد البسط والحصر أمام البيوت، ويجتمع الناس في حلقات كبيرة، يشربون الشاي والقهوة ويستمعون إلى الحكايات.
من يقرؤون كانوا قلة، ومن يعلمون الأطفال في المدارس هم في الغالب من خارج الرقة، ولم يكن فيها إلاَّ مكتبة وحيدة، هي مكتبة “الحقي”، لذا لم يكن أمامنا، في هذا الواقع الأجرد البائس، الساكن والأبله، إلاَّ التجول في الماضي، بين الخرائب والأطلال المهدمة بحثاً عن زجاج ملون، أو قطع نقدية قديمة، أو الذهاب إلى النهر والسباحة فيه، أو زيارة الأضرحة والمقامات برفقة الأمهات، أو البحث عن أعشاش العصافير، والتسابق فوق السور القديم، ومطاردة الأرانب والثعالب، وقتل الأفاعي، وفي الليل نؤوب إلى بيوتنا، ونلتصق بأهلنا، ونستمع إلى الحكايات، زاد الرقة الذي لا ينتهي.
الرقة مفطورة على الحكاية، ومنها انتقل النسغ إليَّ، فأينما تحركت ثمة حكاية بانتظاري، فللنهر حكاياته، وللجبل حكاياته، وللسور حكاياته، ولمقابر شهداء صفين حكاياتها، ولقصور البنات، وباب بغداد، والجامع القديم، تاريخ وقصة وحكاية، وهي حكايات يغلب عليها الخيال والتوليف والخوارق والمعجزات، فتترك أثرها الساحر في نفوسنا، وترافقنا إلى فراشنا بكل أحداثها وشخصياتها، ووقائعها الغريبة، المثيرة والأسطورية.
أحببت الحكاية، وقد عجنتها الرقة بدمي حاضراً ومستقبلاً، ولا أجد نفسي إلاَّ فيها، ففيها كل ما افتقده، وكل ما أتوق إليه أو أشتهيه، عالم واسع فسيح الأرجاء، رغبات وأمنيات ممنوعة، أحداث تركض كالخيل الأصيلة، وحياة تتجدد كالأزهار، وأمجاد تنهض، دون دماء، ودون عناء…!.
أحببت الحكاية فكنت مسحوراً بها، ومأخوذاً بأجوائها الخرافية حيث الخرافة كالواقع والواقع كالخرافة، وقد عزَّز هذا الحب والشغف، ووطَّد مكانتها عندي صديقي الأديب إبراهيم الخليل منذ أن كنَّا على مقاعد الدرس في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة سيف الدولة الابتدائية، ففي الوقت الذي ينصرف التلاميذ إلى اللعب وشراء السكاكر، كان إبراهيم يتحفني بقصص وحكايات مثيرة حببت إليّ القراءة، وقادتني إلى مكتبة “الحقي” التي وجدت فيها ملاذي، فداومت عليها فقرأت كل ما وجدته من كتب المغامرات: طرزان وأرسين لوبين وشرلوك هولمز وكتب السير الشعبية: تغريبة بني هلال وسيرة بني هلال والأميرة ذات الهمَّة وفيروز شاه وحمزة البهلوان وعنترة ثم ألف ليلة وليلة ودليلة والزيبق، وفي المرحلة الإعدادية حباني الله بمدرس مصري يحب الأدب والقراءة، إلى جانب صديقي إبراهيم الخليل، فقرأت تشيخوف، ومكسيم جوركي، ودستوفسكي، والبير كامي، وجان بول سارتر، وتشاينبك، وبودلير، ومحمود البدوي، ويوسف إدريس، وطه حسين، والعقاد، المازني، ومحمد عبد الحليم … الخ.
ولم أبهر إلاَّ أمام كتاب ثلاثة، هم تشيخوف، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وقد ظهر هذا التأثر واضحاً منذ البدايات، ومازال يرافقني حتى الآن، فمنهم تعلمت فن الكتابة القصصية وتجلياتها، وكلما شعرت بالعجز عدت إليهم، لأغتني بهم من جديد.
عندما نشرت أول قصة لي “السخط وشتاء الخوف” عام 1964 في جريدة الثورة، وكنت يومها طالباً في المرحلة الثانوية ـ كان أثر الثلاثة واضحاً في السرد واللغة والمضمون، حتى أنَّ الشاعر ممدوح عدوان أشار إلى ذلك في كتابته عنها.
فمن تشيخوف أخذت الرجل الصغير، المهمش، والزائد عن اللزوم، بطلاً لقصصي، ومن يوسف إدريس أخذت متانة السرد وتجلياته المتنوعة، ومن زكريا ثامر أخذت اللغة، وغرائبية الحدث ـ والخروج على حوامل القصة التقليدية، ولقد سعيت مع زملائي “جماعة ثورة الحرف” التي شكلناها في الرقة في الستينات أن نكتب القصة الجديدة والمختلفة عما كتبه الآخرون قبلنا، القصة غير العادية، التي تجاوز المألوف والعادي في شكلها ومضمونها ولغتها وحواملها الفنية والتقنية، وأن نبدأ من حيث توقف الآخرون.
ومنذ البدايات لفتت قصصي الانتباه لنزوعها الحداثي، واهتمامها بالتعبير الاجتماعي، وجمالياتها اللغوية والفنية والتقنية، ولاقت ترحيباً واهتماماً في الصحف والدوريات الأدبية في سورية وخارجها (الأدب، مجلة المجلة، مجلة القصة المصرية، الأديب، الثقافة، الثقافة العربية الليبية، الأحد اللبنانية، الموقف الأدبي، جيش الشعب، الطليعة، … الخ)، وفي عام 1975 نشرت مجموعتي القصصية الأولى: “السخط وشتاء الخوف” عن اتحاد الكتاب العرب، وفي عام 1978 صدرت مجموعتي الثانية: “الركض في الأزمنة المنهوبة” والتي تمثل بداية امتلاكي لصوتي الخاص الذي لا تخالطه أصوات أخرى، لقد كانت هذه المجموعة غنية بلعبة التجريب، والعمل على اللغة، والاتقاء بالسرد، وتعددية المضامين حتى اعتبرها البعض مفصلاً هاماً في مسار القصة القصيرة في سورية مثل عدنان ابن ذريل د. إبراهيم الجرادي، د. عبد الله أبو هيف، إبراهيم الخليل، وفي عام 1978 صدرت مجموعتي الثالثة “موت الرجل الغريب” وقد ركزت هذه المجموعة على البطل الفرد، المتمرد، المطحون بالخيانات والهزائم والخيبات والانكسارات، لتعكس من خلاله روح المبادرة الإنسانية في الظروف اللاموضوعية لأي تحرك جماعي، وبالتالي فإن البطل في هذه المجموعة هو نتاج مرحلة معينة، فرزتها الضرورة الاجتماعية، وهي تتابع انكسارات الصراع، وتشتمل عليه.
والبطل الفرد الإشكالي في هذه المجموعة يصعد الموقف التاريخي، ويعطيه حسَّاً تراجيدياً هو في أحد وجوهه، الشكل الملحمي للصراع الإنساني.
في عام 1999 صدرت مجموعتي الرابعة “المغني والنخلة” عن اتحاد الكتاب العرب، والمغني والنخلة كانت امتحاناً عسيراً للقصة القصيرة وهي تواجه مشكلة الموت، فكانت ملحمة الروح القلقة، الممزقة المكتوبة بدم القلب، وبقدر ما هي مرثية لمنار الراحلة، فقد كانت في ذات الوقت، مرثية الحياة مرثية لكل الناس البسطاء الذين يواجهون الموت بشجاعة، وقد عشت حالات جنون حقيقية حين كتبت نصوصها القصصية، لقد كانت حالة من حالات الهذيان، والجنون، وهي تخرج من النمط وقوانين القصص المدرسية، وتختار قوانينها هي، صحيح أنها تنتمي للقصة، لكنها ليست القصة في شكلها التقليدي، هي قصة إشكالية لأنها توجهت إلى جوانية الإنسان، ولم تكن معنية بالخارج، ولقد استطاعت أن تنهض بهمها الخاص ليكون هما عاماً وإنسانياً.
منذ البدايات كانت شهوة الخلاف في داخلي، وكانت القصة متمردة على تقنيات القصة الكلاسيكية وحواملها، ومندفعة في مغامرة التجريب والانفعال على مستوى السرد والشكل واللغة في نزوعها الشعري، للوصول إلى نص قصصي مضاد للجاهز والسائد، ومتخلص من عمودية السرد التقليدية، وهذه الخاصية في المغامرة والتمرد تظهر في كل مجموعاتي القصصية لكنها تحقق حضورها المتميز والواثق والمتمكن في مجموعتي “الركض في الأزمنة المنهوبة” 1978 و”قمر أخضر على شرفة سوداء” مجموعتي الخامسة الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 2003.
وسمة الحزن التي تفيض بها قصصي الأخيرة، وهاجس الموت الذي يطارد أبطالها، فلأن الموت رافقني مبكراً وتحديداً من عام 1973، وراح يحصد أقرب الناس إلى قلبي وروحي، وكان موتهم تراجيديا، ما كانوا يموتون كما يموت الناس، وإنما كان يختطفهم الموت إما حرقاً أو غرقاً أو قتلاً، بدون مقدمات يموتون، وهم يلعبون، ويضحكون، أو يعملون، مما صبغ حياتي بالحزن والمرارة والسواد، وتعمق الجرح في القلب والروح بموت زوجتي التي تحولت حياتي بعدها إلى ليل دامس مليء بالمرارة، والعذاب، وصار موتها الشرفة التي أرى منها العالم. ولم أجد شيئاً يعزيني، أو يخفف عني وقع المصيبة وفجائعيتها إلا الكتابة ففي الكتابة استحضر وجوه الراحلين، وأنفخ فيهم من روحي، فأعيدهم إلى الحياة، يضحكون، ويلعبون، وينطقون، وأعيد سيرتي الأولى معهم، أكثر مما عشت، لأنهم ليسوا مثلي، فهم لا يهرمون أبداً ولا يشيخون، أليست الحكايات أغنى من الحياة؟ أليست الحكايات هي الحياة وقد تأبدت؟ فهل أطلب من القصة أكثر من إعادة الحياة لمن لا أستطيع العيش دونهم.
أديب سوري راحل | مجلة قلم رصاص الثقافية