عندما كنت في سوريا عام 1984، والتي بقيت فيها لمدة عام وبضعة أشهر، كنت أترجم مقالات أدبية وقصصاً عن الإنكليزية إلى الصحف والمجلات، وخاصة الفلسطينية.. في البداية قام الشاعر الراحل آدم حاتم بمساعدتي بأخذ ترجماتي إلى بعض محرري الصحف الذين يعرفهم فوجدت طريقها للنشر وواصلت بعدها طريقي بحذر مقابل بعض المكافآت المادية المتواضعة..وكنت أقضي ساعات طويلة مع كل نص.. وخوف دائم يعتريني، كلما واجهت بعض المفردات أو العبارات المستعصية على الترجمة لإيجاد مقابلها باللغة العربية. وقد حدث لي أكثر من مرة أنني تركت نصاً كاملاً بسبب شكّي، ولمجرد الشك بعبارة أو مفردة واحدة، رغم إمكانية تلفيقها وترجمتها في سياق العبارة.. وكان بعض الأصدقاء يعتبرون هذا الأمر مبالغة.. إلا أنه الخوف من أنني أهين كاتب النص وأعبث بمشاعره وتجربته هو الذي كان يهيمن عليّ.. وهذا الخوف ما زال يلازمني رغم خبرتي في الترجمة لأكثر من 30 عاماً. ولهذا أقوم ببحث عميق مسبق عن الكاتب وفكره وأدبه وأقرأ بعض ما كتب عنه قبل أن أشرع في الترجمة.
وخوفي ليس منبعه الوقوع في سهو فقط، حتى وإن كان غير مقصود، فهذا السهو لا يمكن لأفضل المترجمين أن يتجنبه تماماً، وهذا اكتشفته في قراءاتي العديدة لترجمات عالمية إلى اللغة الانكليزية، وخاصة ترجمات جرت من الدانماركية لنصوص سورن كيرككورد، ولكن مصدره القلق الذي يلازمني كلما اقتربت أو نويت ترجمة نص ما.. وهذا القلق سببه هو الإخلاص إلى كاتب النص الأصلي، فغالباً ما أطرح على نفسي سؤالاً: أية معاناة عاشها الكاتب لكي يصوغ كل عبارة كتبها في نصها، وما هو عدد الساعات والأيام بل والشهور التي قضاها مع هذا النص؟ فأية كارثة ستهزه لو عرف بانني أعبث بترجمتي لنصه؟
ولهذا أغضب أحياناً عندما أقرأ ترجمات أرى فيها أن كل همّ المترجم هو إصدار كتاب مترجم لا غير… ولكي لا أبقى محلقاً في التجريد، أشير إلى أنني أطلعت على ترجمة من الدانماركية إلى العربية لمنتخبات من الشعر الدانماركي، قام بها عراقي يكتب القصة..وأقل ما يمكنني القول عن الترجمة بعد أن أنهيت قراءتها، إنه قام بمجزرة حقيقية بحق الشاعرات والشعراء.. بحيث تصور، في بعض الأحيان، أن الترجمة نقل مفردات بمساعدة القاموس من لغة إلى لغة أخرى.. ولكي أكون أكثر وضوحاً فقد ترجم، مثلاً، holder jul، إلى (أمسك ديسمبر). من ناحية الترجمة الحرفية للمفردات فهي صحيحة إلا أن المعنى خاطىء، لأن العبارة تعني “أعيّد في الكرسميس أو” أحتفل بالكرسميس” إذ تعتمد على قائلها فإن كان متديناً مسيحياً فلها سمة دينية..الخ. ويمكنني أن أعطي العديد من الأمثلة لكنني أكتفي بهذا القدر من التوضيح.
والسؤال هو: ألم يكن من الأفضل لهذا الشخص، وهو إنسان له اهتمامات أخرى بالأدب، أن يفرح ويكتفي بقراءة الأدب الدانماركي بما يتوفر له من إمكانيات لغوية؟ ولماذا يقحم نفسه في هذه المعمعة المتعبة والخاسرة أصلاً، والتي ستكون نتيجتها تشويه نصوص الآخرين وجهودهم الإبداعية؟
الترجمة عمل شاق ومتعب، يشبه المشي في حقول ألغام، وهو معرفة وعلم قبل أن يكون اتقان للغة، ومن لا يملك هذا التصور عن الترجمة، فالأفضل له أن لا يضيّع وقته سدى ويستخدمه في القراءة المثمرة لتوعية ذاته وتربيتها جمالياً وفكرياً.
خاص مجلة قلم رصاص الثقافية