الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهليّة بمحليّة (21)

يوميات حرب طائفية أهليّة بمحليّة (21)

غبار عالق في الهواء يحجب عُلُوّ قاسيون. على الجسر تتزاحم السيارات أرتالاً فوضوية لتنفصل فيما بعد إلى مسربين أحدهما مدني والآخر عسكري.

 في الجهة المدنية، أفكر بفائدة بطاقة النقابة على الجانب الآخر الذي تمر عليه سيارات تكسي يخرج زبائنها بطاقاتهم الملونة في وجه العنصر المحترق تحت الشمس. سيارة قمامة تمر أيضاً على ذاك المسرب فأفكر:

– كل الشعب صاير على الخط العسكري..

أدخن سيكارتي وأنا اتكئ على المقعد الأمامي قرب السائق، أنفض رمادها بلا مبالاتي من النافذة، تقطع طريقنا سيارة بالعرض لتتسلل إلى ذاك المسرب السحري.. زجاجها مفيّم أما لوحتها فمخفية تحت طلاء ابيض يظهر تحته كلمة “الرقة” يحاذيها يميناً رقم السيارة.

سيارة من أدلب تمر أيضاً لكنني لا ألمح المسرب الذي قَرَّرته.

أعد اللوحات الموزعة على امتداد الحاجز.. ربما ثمانية.. بيده الممدودة للأمام.. لا أذكر غيرها.. ربما لأنها تكررت أكثر من غيرها.. وفي الزاوية اليمنى كُتِب: إياكم وسوريا..سوريا قطعة من الروح.. ذاكرة متبقية.. نوستالجيا.. مرض نفسي مُستحدث في الحرب..

كلما فكرت بما يربطني ويبقيني في هذا البلد الفاسد بتقلبات أوجهه المتعددة لا أجد جواباً، هل هو هواؤها الملوث بدخان السيارات، أم ماؤها الملوث بالصرف الصحي، “ياسمينها” المغبرّ اليابس الذي نسي رائحته فاختزنتها الذاكرة في خلية مختبئة داخل عقولنا الفاسدة أيضاً.

شيء ما في هذا البلد العجائبي لوث الباقين منا.. هنا.. نسبح بإرادتنا وسط هذا الغبار المعلق في الهواء القادم من الصحراء.

سوريا.. نكرهها ونحبها.. أو على الأقل “أنا” كي لا أشمل الآخرين معي.. أكرهها وأحبها.. أعرف السبب الأول ولا أجد جواباً للثاني.

على إذاعة نينار دعاية لمرتديلا زينة التي سُحبت من الأسواق بفضيحة منذ أكثر من شهر ليعاد بيعها لمن هم تحت خط الفقر في الأحياء العشوائية، ومذيع سوري يتظارف باللبنانية.. تتطاير الكلمات من فمه هراء أو خراء.. فلا فرق بين الكلمتين سوى حرف واحد.
بوجود مذيعين كهذا يتحتم على نصف الشعب من المستمعين المرغمين إلى البرامج الصباحية اثناء حجّهم في المواصلات العامة أو الخاصة أن يمتلكوا أسباباً منطقية لكرهها.. فافكر:
– ….. أخت هلنهار من أوله…

سائق يزاحم سيارة التكسي التي أركب بها فيخلع المرآة الجانبية.. ورغم التصاقه وقدرته على إعادة المرآة لمكانها من نافذته يتظاهر بأن شيئاً لم يكن ويكمل طريقه.. ولا حتى نظرة أو كلمة اعتذار..  لن يكلفه سوى أن “يمد يده” ويعيدها لمكانها.. مع ابتسامة صغيرة.. او نصف ربع ابتسامة..

سبب آخر لكرهها.. صار لدي سببان..

يحمل الهواء دخان سيجارته الحمراء إلى نافذتي الملاصقة لنافذة سيارته.. اشم رائحة عرقه.. يتجاوزنا دون لفتة.. أو كلمة اعتذار..

أرمي بقايا السيكارة من النافذة.. ماهرون نحن السوريون برمي نفاياتنا من النوافذ.. بدءاً من أعقاب السجائر، المحارم المتسخة، تنكات البيبسي، زجاجات العصير..

 نعشق نفض سجاداتنا على غسيل جيراننا الأبيض، وصولاً إلى قمامتنا التي تطير من النوافذ لتنفجر أكياسها الهشة المخصصة للخبز عند مداخل بيوتنا متقيئة نفاياتنا من فوط خراء جيل الحرب إلى فوط حيض النسوة الأرامل.. نقفز فوقها ونتابع سيرنا.. فهذا هو المسلك الطبيعي..

سبب ثالث لكرهها..

يطل من النافذة عليّ فيجدني متكئة على المقعد الأمامي كالسابق، يسألني:

– نعسانة؟

أجيبه بإشارة نفي من رأسي مترافقة بـ:

– تسه..

يلوح بيده آذناً لنا برحيل مؤقت قبل توقف طويل آخر..

تمر على الرصيف المقابل، أراهما يلتفتان نحوها ليفصّلاها، تلك الحركة المبالغة بالنظر المترافق مع حركة الرأس صعوداً ونزولاً وبالعكس.. أفكر: ماذا لفتهما فيها؟ لا شيء غير اعتيادي.. حتى أقل من اعتيادي..  امرأة عادية متوسطة الجمال ودون مؤخرة.. تندر مصادفتها بعد أن تحولت النسوة إلى رسومات ومنحوتات تحت مشارط الأطباء وخبراء التجميل.. بصدورهن العارمة الرجراجة وحواجبهن المرسومة، رموشهن الاصطناعية وأنوفهن الدقيقة التي قُدّت لدى ذات الطبيب. سوريات من السليكون وفق نسخ فوتوكوبية عن فنانات استهلكتهن الشاشات الخليجية.

سبب رابع لكرهها..

نجلس على شرفة مشفى الشام للأمراض السرطانية المطلة على بنك الدم، أنفخ دخان سيجارتي بعيداً عنها وعن باب الغرفة المفتوح كي لا يدخلها وتنزعج من رائحته. انظر إلى فسحة صدرها الذابل، خطوط الفلوماستر الاسود تطل من تحت البروتيل وتتصل بنقاط موشومة على الجلد لتحدد المنطقة المعرضة للأشعة، هذا النوع من الفن يطلق عليه في عالم الطب: “التخطيط الشعاعي”. الأطباء يمارسون هوايتهم في الرسم ايضاً.. حتى لو كان رسماً بدائياً يشبه ما يخطّه اطفال الرابعة على الجدران، بأصابعهم التي لم تتمرن بعد على أمساك القلم والتحكم به.

فأفكر بسرطان الحرب ولا أجد سبباً واحداً لأحبها.. تلك التي اسمها سوريا.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *