نورس علي |
ليس في الكون مشهدٌ أكثر بريقاً من إسفلتٍ ساخنٍ يلتمعُ تحت أشعّة الشمس البيضاء. يمكنكَ أن تقضي عمراً بأكمله وأنت تحدِّقَ نحو تلك النقاط البيضاء المتوهّجة، التي تشبه إلى حدٍّ ما النقاط التي تظهر فوق سطح البحر عندما تحدّق به من بعيد في يومٍ صيفيٍّ مشمس، إلّا أنّ هذه النقاط البيضاء هنا لا تراوح مكانها في رقصةٍ أزليّةٍ كما تكون فوق سطح البحر، بل تتلاشى أمام حركة الباص، فكلّما اقترب منها هربت من أمامه. كأنّها مصيدةً سرابيَّةٌ من نوعٍ ما، تدفعُ الباصَ شيئاً فشيئاً إلى الأمام، إلى الضوء في آخر النفق.. الفرق الوحيدُ هو أنّنا لسنا في نفق.. تلك هي ظلمة الواقع التي تحيط بنا في وضح النهار.
كنتُ كطفلٍ أدوسُ حجارة دمشق القديمة بعناية، الحجارة التي رُصفت الواحدة تلو الأُخرى، كنتُ أحرصُ على أن أدوس داخل حدود الحجر المستطيل، لا على حوافه ! لا أعرفُ ما هو السبب الذي قد يدفعُ طفلاً لوضع قاعدةٍ سخيفةٍٍ كتلك، ولكنَ عقول الأطفال الغضّة قادرةٌ دائماً على ابتداعِ شتّى أنواع الألعاب الغريبة. على كلّ حالٍ لم يعد من داعٍ للقلقِ حيال الحجارة المصفوفة في أزقّة المدينة القديمة، ولا حيال طريقة الدوس عليها، فحيث أنا ذاهبٌ لا وجود لطرقاتٍ مرصوفة. الطريقُ المغطّى بالاسفلت يبدو كحجرٍ طويلٍ جدّاً .. لاحدّ لهُ ولا نهاية، بإمكانك أن تدوس فوقه حيث شئت، فلن تطال حدوده أبداً !. نفضتُ أفكاري بعيداً، ورُحتُ أتفقدُ ركّاب الباص من جديد، مضت نصف ساعة تقريباً على انطلاقنا، نظرت إلى الخلف، الشابُ
الذي كان يعيد تفقّد أوراقه مراراً وتكراراً كان قد توقّف عن ذلك، معظم الركّاب قد غطّوا من جديدٍ في النوم أو حاولوا فعل ذلك على الأقل، ومنهم من نجح فبقي ساكناً في مكانه، ومنهم من لم يحالفه الحظ فراح يعيد ترتيب وضعيّة جلوسه كلّما مرّت برهةٌ قصيرةٌ من الوقت.
في الزاوية اليُمنى في مؤخّرة الباص جلسَ شابٌّ وحيداً، كان يرتدي بنطالاً أزرق من الجينز وقميصاً أبيض قام بفتح أزراره الثلاث العُليا، فيرزَ فوق صدره عقدٌ أشبهُ بالسُبحة، كانت تلك العقود تعتبر شبابيّةَ المظهر في دمشق حينها، فلا يمضي يومٌ من دون أن ترى بضعةَ شبّان يضعون حول أعناقهم عقوداً تحمل الشكل ذاته. كان ذا شعرٍ أسودٍ قصير ولحيةٍ كثّةٍ أطول منه بقليل، وكان قد وضع سمّاعتين في كلتا أُذنيه، وراح يتحدّث، يبدو بشكلٍ واضحٍ أنّهُ يجري مكالمةً مطوّلةً مع أحدٍ ما. عُدتُ إلى النظرِ نحو الشارع الملتمعِ تحت أشعّة الشمس، لا شيء مثيرٌ للاهتمام، تذكّرتُ شيئاً ما، وضعتُ يدي بسرعةٍ على جيبي الأيمن ثمّ على جيبي الأيسر، مازلتُ أفعل ذلك حتّى اليوم، كلّما أردتُ أن أتأكّد من أنّني أحمل جهازي الجوّال ومحفظتي، أحياناً يبدو ذلك أمراً مبالغاً به، قد أفعله لعشر أو عشرين مرّةً كلّ يوم. و أنا الآن أنظرُ إلى ذلك لا أعتقدُ حقّاً بأنّني أريد التأكّد من مقتنياتي، الأمرُ أشبه بما يفعله أولئك الذين لا يستطيعون الكفّ عن هزّ أرجلهم عندما يجلسون، أو أولئك الذين لا يستطيعون الكفّ عن النقر على الطاولة بأطراف أصابعهم. هو ذلك الصوت الذي في داخلك، صوت القلق اللئيم، الذي تحاول أن تُخرسهُ بأيِّ شكلٍ كان.
تباطأت حركة الباص من جديد، وصلنا إلى الحاجز الثاني، كان الطريق مقسّماً إلى ثلاث مسارات رئيسيّة تتجمّع فيها السيارات والباصات وسائرُ انواع الآليات المسافرة على شكل طوابير.
وقف باصنا في المسار اليميني حيث وقف أمامهُ باصٌ واحدٌ فقط. إلى جانب الطريق وقف رجلٌ بدا في منتصفِ الخمسينات من عمره، وأمامه انتصبت منضدةٌ صغيرةٌ فوقها أنواعٌ مختلفةٌ من السجائر، وإلى يسارها سخّانٌ كبيرٌ للماء، كان ذلكَ الرجلُ يبيعُ
السجائرَ و المشروبات الساخنةً لسائقي المركبات وركّابها. مدّ السائقُ رأسهُ من نافذة الباص وطلب كأساً من القهوة و(باكيت مانشستر )، الماركة التي أصبحت شهيرةٍ جدّاً في البلاد في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد المواطن الذي ينتمي للطبقة المتوسّطة قادراً على شراء أنواع السجائرالمعروفة مثل ( الكنت ) و (المالبورو)، حتّى أنّ نوع السجائر بات إحدى وسائل التفاضل الاجتماعي في الآونة الأخيرة. تراودني ضحكةٌ وأنا أكتبُ هذه الكلمات .. أذكرُ أنَّ أحد الأصدقاء جمع مصروفه الشخصي لمدّة ثلاثة أيّام، ثمّ اشترى به علبةً من سجائر ( مالبورو )، وبعد أن انتهت لم يقم برمي العلبة، بل راح يشتري من أنواع السجائر الرخيصة، ثمّ يفرغ السجائر في علبة ( المالبورو ) الفاخرة لكي يوحي لمن يراه بأنّه من ميسوري الحال ! لم يكن ذلك مستغرباً حقّاً على وجه الخصوص، ففي عالمٍ بلادٍ الزيف فيه، علبةُ سجائر واحدةٌ من النوع الفاخر قادرةٌ على أن تصنع الفرق، قادرةٌ على أن تعطيكَ أهميّة خاصّةً من نوعٍ ما، فلا عيب ولاضير في أن يبحثَ شابٌّ في مقتبل العمر عن ذاته.. في علبة سجائر.
شاعر سوري ـ ألمانيا | خاص موقع قلم رصاص