الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (22)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (22)

باتت دمشق مدينة مصابة بالفصام.

السبع بحرات..

سيارة دفن الموتى تلف دوار السبع بحرات وحيدة دون موكب بينما أقطع الشارع وسورة يوسف بكواكبها الأحد عشر تصدح في فضاء دمشق على خلفية قاسيون والبنك المركزي.

أراقب شفاه المارة.. كلٌ يسير يتمتم وحده دون صوت وكأنه تلوث بعدوى فصام المدينة.

صالحية برلمان..

عند مجلس الشعب يتوزع أفراد الشرطة في الفيء حاملين كؤوس المتة مقابل قهوة الروضة التي لا تقدم هذا المشروب الذي يحتاج إلى تسخين مستمر، وعلى الجهة الأخرى من الشارع قرب وزارة الاتصالات، يجلسون داخل سيارتهم الحمراء يلعبون بموبايلاتهم، ربما يتراسلون الواتساب مع حبيباتهم بينما جلسة لمجلس شعبنا تعقد في البرلمان.

الحمرا..

جود يدور بالبسكليت وسط المكتب الواقع في الملحق.

ساروجا..

حفرة صغيرة لا تلفت النظر خلّفها الهاون على الأرض المبلطة، أدوس فوقها وأكمل سيري وأنا أفكر بما رأيته من دم يشطفه الزبال في صفحة “يوميات قذيفة هاون”، وبالقرب من الدم تناثرت حبات البندورة حمراء أيضاً.. كانوا خمسة.. كل منهم لديه ذاكرة وأسرة تنتظره على الإفطار.

نتحدث عن الفارق بين هذا الحر والشتاء القاسي الذي مررنا به.

– وقللك الله خود.. بدك دفا يا عرص؟

تقاطع شارع النصر مع شارع الثورة…

ننزل في النفق المؤدي من القصر العدلي إلى الحميدية، على درجات النفق أعمى يبيع المحارم، أدسّ في يده خمسين ليرة زادت عن ثمن قنينة البقين.

سوق الحميدية…

بائع بالونات يشق طريقه وسط زحام المارة المتدافعين.

ندخل إلى بكداش فلا نجد طاولة فارغة فننزوي بكرسيين عند الزاوية، نستعير صحن سيجارة من جيراننا.

هي تحمل وردة قرنفل حمراء ثم تضعها في كأس الماء أمامها.

هو ينظر إليها بعينين عاشقتين ويمد لها بسلسلة علق فيها حنجور صغير أحمر في داخله حبة أرز كتب عليها اسماهما… تمد يدها خجلة وتدسها في حقيبتها.

مازلنا نتناوب استعارة صحن السجائر.. تصل المحلاية فاسأله عن الكرزة الحمراء.. أين هي؟ فقد قدمنا خصيصاً من أجلها فيجيبني وهو يضحك:

– مقطوعة من السوق..

زبون آخر يتذمر:

– كنتوا تحطوا فستق حلبي وكاجو…

فيجيب بضحكته:

– راحت هديك الأيام…

ألفة غريبة، نتكلم أنا وسيمون عن السفر.. لكن كيف لنا أن نترك كل هذه الألفة؟ هل سنجد هناك من يعيرنا صحن سجائره أو يسقينا من إبريق الماء المعدني؟

نخرج.. يلحق بنا بائع مصاحف صغير فأطرده بإشارة من يدي فيلتصق بنا على الفور بائع ورد جوري أحمر صغير.. يطرده سيمون.

الأموي…

يفتّش حقيبتي بينما أنظر إلى البسطة التي علّقت سلاسل عليها السيف ذو رأسين وصورة عليّ بن أبي طالب وزوبعة ونجمة الحدود الخمسة وصليب، علم سوريا ونسرها وكلها في رزمة واحدة.

نتجاوزه بعد أن يطبطب على خواصر الرجال بحثاً عن سلاح ونطل على عظمة الأموي والسنونو.

باب جيرون…

لم يبق من معالم الباب سوى كولبتين اسمنتيتين على جانبيه، عند الحاجز يجلس العنصر متسلياً بالاستماع إلى صوت شحاطته وهي ترتطم بكعب قدمه حين يلوح بها. حتى مياه الحنفية مقطوعة.

القيمرية..

ملابس الناس ملونة لافتة تبهج العين على عكس سواد داعش.. البنات بمكياجات وتسريحات لاستقبال الموت بجمال إن هوى فجأة على شكل قذيفة أو صاروخ من السماء. 

حر شديد واصوات المولدات تطغى على صوت أم كلثوم ينبعث من مسجلة قرب مجموعة عجائز يلعبون الطاولة في الطريق.

محل حلويات الكوثر يضع بأعلى الصوت أغاني شارات برامج الأطفال، فينتقل: من ضع يدك بيدي إلى التنين غريسو وهو يغني:

– هناك حريق في البلد… فيجيبه الأب: ما دخلك أنت يا ولد؟

ميكي ماوس يحمل بالونات وظفه أحد المطاعم لاجتذاب الزبائن يلعب مع بنتين تضحكان خجلتين وتهربان، بينما فتاة شابة تلتقط معه صورة سيلفي.

علم إسرائيل ما يزال مثبتاً إلى حجارة الطريق قرب أحد المحلات لنطأه بأقدامنا كلما مررنا بينما شوادر مفوضية اللاجئين تغزو يومياتنا، ليس في المخيمات فحسب.. كيف لا وسعر الشادر لا يتجاوز الألف وخمسمئة ليرة..

أما مجنون القيمرية فيناقش الوضع السياسي مع مجموعة من الشباب ممن يسندون الجدران ببطالة.

باب توما…

أجلس قرب عجوز يضع في اصبعه خاتماً بصليب، يصعد شاب بروسيته إلى الميكرو فأسأله إن كان قد ” أمّنها” ويجيبني بابتسامة واثقة.

باب شرقي…

خلفي ولد يسأل أباه عن سعر كيلوغرام البطيخ المصفوف على الجهة المواجهة لبوظة أمية:

– لساتو بأربعين؟

 يرن موبايل أحدهم بنغمة أغنية فرحة، ويرن آخر بنغمة فرح وليس بدعاء ديني أو صوت آذان.

حاجز مخيم جرمانا..

أراجيح العيد ما تزال منصوبة قرب مجمع حاويات الزبالة، وبائع الدخان الاعرج يتحرك على عكازه بمهارة ليمد باكيت الدخان لسائق ميكرو توقف للحظات.

ووسط هذا الفصام مازلنا نعيش.. نفرح.. نتلوّن.. ونحب.

حتى أنني أشعر وكأن الحياة قد بدأت الآن..

22 تموز 2015

 موقع قلم رصاص الثقافي 

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *