رامي الخيّر |
طريقي إلى جسر الرئيس في دمشق، حيث تجمُّع السرافيس التي تنطلق لوجهات مختلفة، ومنها الوجهة التي أقصدها، حيث أقطن، وحيث نزحتُ سابقاً عن حرب أقف الآن على هامشها، وأستمع إلى نشاز موسيقاها التي لم أتركها تشعر يوماً بأنها تطربني، بل كلُّ ما فعلته أنها أرعبت الطفل في داخلي، وأيقظته متوتراً من نومه القصير، وجعلته يخمن أعداد الضحايا يومياً!.
لأعود بكم إلى الحديث الذي بدأته؛ هناك وبجانب الجسر كانت تقف عربة كستناء يومياً ينظر إليها المارة، فيبطئون بالمشي، لعلهم كانوا يفكرون بما أفكر فيه عند رؤية الكستناء..
كم تستحقين يا عزيزتي؟ كمية لا بأس بها من كستناء العربة، وزجاجة نبيذ معتَّق في ليلة شتوية بامتياز، هل أنت مستعدة للكم الهائل من المشاعر التي سأترجمها قبلات حارة؟
شهيةٌ هي القبلة بعد الكستناء، وبعد كأس النبيذ، كنت أتمنى لو بدأ يومي ذاك بشراء كيلو غرام كامل من الكستناء، التي يقول البائع بأنها نظيفة وأصلية، تلك البنية التي يسمونها أبو فروة، أو (حمبصيص)!
كيف سنشوي الكستناء حبَّاً؟، لا يهم، الآن وفي هذه الحرب، الأمر سيّان في فرن الغاز، فوق مدفئة الحطب، فوق لظى الشوق، على حرِّ الأخبار العاجلة، لا فرق.
كنت أتمنى دوماً أن تقتحم لجان التموين وحماية المستهلك كل الأماكن التي تقوم برفع الأسعار، كان سعر كيلو الكستناء غالياً جداً، يرتفع أكثر من الدخل الهزيل للمواطن السوري، لكن الكستناء تستحق ثمناً غالياً، إلا عربة الكستناء!، فأمام عظمة ورمزية ما يرتبط بالحبِّ، كل شئ يكون جميلاً ويرخص له ما نملك وما لا نملك..
على جسر الرئيس، ركضت الدورية، وركضَ المواطنون، والبائع يصيح : هل تعلمون من أكون؟، حتى بائع الكستناء يحمل في جيبه استثناءات أكبر من حبنا!،
كان يوجه كلامه إلى دورية التموين التي أرادت محاسبته بتهمة التلاعب بالأسعار، فقد رفع سعر كيلو الكستناء أضعاف سعرها الطبيعي، وعلى ما يبدو، ومن خلال الحوار الدائر، لم تستطع الدورية تحرير مخالفة بحق البائع أو حتى مصادرة الكستناء، بعد أن عرفت طبيعة مهنته الحقيقية، فهو يبع الكستناء، ويشتري الأمن، ربما هو من حرر مخالفة بحق لجنة التموين، وكان المبرر على ما أعتقد “دواعي أمنية” ..
فلتنسِي قصة الكستناء يا عزيزتي، ودعينا نتذكر تأثير كلمة “دواعي أمنية” على كل شيء يتعلق بنا، أراد والدكِ حمايتك من قسوة الحرب التي نعيشها، فقرر إرسالكِ لمتابعة دراستكِ في ألمانيا وعلل ذلك أيضاً بالدواعي الأمنية..
أراد حمايتك وقتلي، وقتل أحلام الكستناء التي عزمت على تحقيقها معك، لم يعلم والدكِ أنَّ قدر السوري هو الارتقاء لحياة أخرى .. فعلى الطريق إلى المطار أبى الموت أن تكملي طريقكِ، رصاصة قنص غادرة منعتك من السفر، ومن أكل الكستناء ..
فقدت ما تبقى من عقلي، أصبح أهالي الحي يلقبونني بمجنون الكستناء، فما أن أسمع أي حديث عن تلك الأكلة المزعجة، أو أراها حتى يجن حنوني وأبدأ بالصراخ و البكاء … ينتهي صراخي بكلمة واحدة : دمشق.
فيرتفع ضغط الدم إلى رأسي مكتظاً بالصور ..
سورية | خاص موقع قلم رصاص