حسين الموزاني |
أحياناً أستأنس بآراء هايكه فاغنر لأنّها تقدم دائماً وجهة نظر أوروبية موضوعية وخالية من المجاملة، فقالت لي أثناء الإفطار مثلاً: إنّ الساسة الغربيين محتالون وأذكياء لدرجة أنّ العرب لا يشعرون بذلك.
فسألتها: وما هو تفسير هذا الكلام؟
فقالت: إنّهم يخططون لتدمير مدنكم وتمزيق شعوبكم لكي يبيعوا لكم الأسلحة والسيطرة على ثرواتكم وتعزيز نفوذهم السياسي والاقتصادي في المنطقة، وتكونوا أنتم شاكرين وراضين عن صنيعهم.
وتطلعت إليّ بنظرة يائسة وتشي بالحزن وأردفت: ثّم إنّكم لا مستقبل لكم، بعد أن خسرتم جميع حروبكم وحطمتم بلدانكم بأيديكم.
فكان هذا حديث الصباح إثناء الإفطار، ليبدأ بعده النهار بالإحباط واليأس، لأنّ كلامها يؤكّد كلّ ما توصلنا إليه نحن بأنفسنا ومنذ عشرات الأعوام. وأقولها بصراحة وأجاهر بها علناً: إنّ لا مستقبل للعرب، أمّةً ودولاً وشعوباً. وشرح ذلك بسيط للغاية وهو أنّنا لم نر خلال الخمسين أو الستين عاماً الماضية سوى التدمير والتخريب المنهجيين وعلى جميع الأصعدة، ثمّ جاءت الحروب الأهلية والطائفية والعرقية والدينية، لتجعل دمارنا شاملاً وكاملاً. ويبدو أنّ مشكلة الإنسان العربي هو أنّه يفضّل الموت على معرفة الحقيقة أو حتّى جزء يسير منها.
بيد أنّ النظرية رمادية ومعتمة اللون، مثلما يقول الشاعر غوته، بينما تكون شجرة الحياة زاهيةً على الدوام. ولذلك قرعت ساعية البريد الجرس ثلاث مرّات، على الرغم من أنّ ضربةً واحدةً كافيةٌ عادةً، وكأنّها تزفّ إليّ خبراً ساراً. فجاءت تحمل فعلاً صندوقاً من النبيذ الأحمر البيئي، الفاخر، ومعه كرّاساً صغيراً يلخّص الفروق الكبيرة بينه وبين النبيذ العادي. ويضمّ الكرّاس صور الكرّامين، وهم بلا شكّ من أكرم الناس وصنّاع الحياة الأوروبيين. فما قيمة الحيّاة كلّها بلا نبيذ ولا موسيقى، وخاصةً الآن في هذا الزمن الداعشي الرهيب؟
وعندما زرنا كوبنهاغن، هايكه وأنا، قبل عامين تقريباً دعينا إلى مطعم بيتزا صغير، وكان صاحبه من أهل البصرة، وكانت البيتزا التي يصنعها تشبه “خبز العبّاس” اليابس، لكنّه كان لطيفاً ومهذّباً وكريماً فوضع زجاجات النبيذ الأحمر العملاقة تحت تصرفنا، وقدّم لكوكب حمزة نوعاً من العرق الدنماركي على ما أظن، لأنّ كوكب يعتبر النبيذ خلّاً! ثمّ أطفأ صاحب المحل الأضواء الخارجية للمحل ووقف أمامنا شابكاً ذراعيه على بطنه، كمن ينتظر خروجنا. فسألته: “ها خويه تريد تعزّل؟”
فأجاب على الفور وبابتسامة بصراوية جذلة انتشرت على محياه وجسده كما لو أنّه لم ينتظر إلا هذا السؤال: “أي خويه، أريد أسافر باجر لجزر الكناري. تحب تجي وياي؟”
أديب ومترجم عراقي رحل منذ أيام | موقع قلم رصاص