الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (23)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (23)

بعد أربع سنوات تجرأت على زيارتها.. دون ضغينة.. دون توقعات مسبقة.. ودون أي تعلّق داخلي..

في الخامسة فجراً شاهدت النجوم.. وفي السادسة ومع بداية شروق الشمس من خلف الهضاب رأيت الضباب يغطي أشجار الزيتون كغلالة شفافة من حرير رطب..

ما المذهل في مشاهدة النجوم والضباب؟ ربما هي تلك الرغبة بالاستلقاء على الأرض والنظر إلى السماء دون التفكير بأن الوقت يمر بالتأمل، الإفلات من زمن “الآن”.. ورغبة بالاختباء في زمن “كان” حين كنت طفلة أراقب بريقها وأنا أفكر بالحياة هناك.. في الأعلى.. باحثة عن اصطفافاتها التي تكوّن أبراجنا نحن البشر.. وقد تتحكم بمصائرنا بطريقة ما.

وأنا انظر من نافذة الميكرو المتعرقة تخيلت نفسي هناك.. أسير بين أشجار الزيتون.. تتكسر الأغصان والأوراق اليابسة تحت قدمي وتلامس وجهي وشعري ذرات الضباب الرطبة.. أمسح بيدي عليه وكأنه غطاء سرير نظيف فُرِد للتو بيديّ أمي..

قربي يجلس عسكري بعتاده الكامل، الروسية محبوسة بين ساقيه، الجعبة تزنّر صدره وخصره، فيها جيب مخصص لسكين. أمامه عسكري آخر، نبتت لحيته بالكاد، حقيبته مهترئة لكنها قادرة على حمل ملابسه التي ستغسلها أمه، وطريق الإجازة زمن مُستقطع من حيز الموت والرصاص.

*****

ماتزال شوارعها كما كانت في المناطق التي لم تتعرض للدمار، لكن خطوط السرافيس والباصات تغيرت حسب الحواجز والجدران المبنية بين الحارات بأيادي أهلها..

مررت قرب مدرستي في ساحة الحاج عاطف.. ولم أشعر بالحنين.

الدمار يحيط بقلعتها، تتهاوى الطوابق فوق بعضها كقطع البسكويت ورغم ذلك ما زلت أتعرف إليها، إلى معالمها..

المنازل خالية من نوافذها وأبوابها الخشبية، وحده الحديد لم يزل يقاوم السرقة رغم اعوجاجه..

كراج الكرنك يشبه أفلام الرعب الأمريكية بمساحاته الفارغة المهجورة والدمار المحيط به، وحده جامع “سيدي خالد” يقف متباكياً مستعرضاً جراحه مستعداً للترميم على حساب المستشفيات والمدارس والبيوت.

خطوت نحو السوق المسقوف عند تقاطع الورشة مع بناء نقابة المهندسين، سكون يحيط بي ولا مرأى لآدمي، فقط صوت الريح.

أتذكر بائع الحمص عند الزاوية، ووجوه أصحاب دكاكين البالة على امتداد الشارع، من هنا اشتريت حذائي البني، ومن هناك جاكيتاً ما أزال أرتديه. أبي كان يشتري الطحينة من هنا، ومن ذاك الدكان يشتري الجبن.

دخلت السوق، ذلك الصمت “المطبق” استدعى فيّ السكينة ورغبة أن تمتد هذه اللحظة إلى الأبد، استغربت من نفسي، راجعت مشاعري.. أيعقل؟

 وحدها رغبة “التعرّف من جديد” كانت تسيّر قدمي، ولم اكن أرى “الآن”، بل ما “كان”، أسمع الأصوات وأشم الروائح.. الآن لا شيء سوى السكون ورائحة الحريق.. نهبوا السوق، احرقوه ثم سلّموه لأهله..

وسط غبار الدكاكين مخلّعة الأغلاق تختبئ التفاصيل، لا قيمة لها لتُنهب.. دفتر حسابات تركه صاحبه على الطاولة وغادر، ماكينة خياطة قديمة نوع سنجر، بقايا مرآة، و”حصن حصين” وقع أرضاً من مخبأه فلم ألمسه.. لم تتجرأ يداي على لمس ذاكرة الآخرين.. أو الإخلال بطمأنينتها..

السقف المعدني مخردق بالرصاص تتسلل منه الشمس كشلال ضوء، كم مرة وقفت أنا وأمي عند هذه الواجهة، وهنا كنت أشتري الخيطان والأزرار.. ومن هنا ومن هناك…

للمكان أيضاً ذاكرة لكن لا لسان له ليروي التفاصيل..

كل هذا الصمت بعد جحيم الرصاص والقنابل.. حجارته لن تنسى تلك الأصوات ولن تنسى الصراخ.. ولن تنسى ملمس الدم واللحم ورائحته المتعفنة..

لكن لا لسان له ليروي تفاصيل الموت.. أو يتدخل في تفاصيل الخلاف بين البشر..

في السوق ايضاً دخلت حماماً لا اعرف اسمه.. كنبة محترقة في مدخله تطل من علوها على بحرة تتوسط البهو قبل الدخول إلى حجراته ذات القباب المزينة بزجاج ملون يعكس ضوء الشمس على البلاط.

 صورت بعض التفاصيل بكاميرة موبايلي.. ما تزال الثريا الزجاجية معلقة بالسقف الذي اخترقته قذيفة، شحاطات تستعد لاستقبال أقدام المستحمين.. وأحذيتهم.. أكياس حمام مبعثرة، وعلبة شامبو الكينا.. شاهدتهم وسمعت أصواتهم وضحكاتهم وسط السكون وصوت تحطم الزجاج تحت قدمي.

امرأة في فضاء مخصص للرجال استرق النظر إليه.. من منهم مايزال على قيد الحياة ومن منهم مات؟ لكن هذا المكان جمعهم يوماً.. أغراضهم شاهدة على مرورهم.. أما هم..

امرأة سافرة أصعد درجات المنبر في فضاء جامع القاسمي.. أقف.. لحظة من العمر لن تكرر نفسها.. وكله لي في هذه اللحظة من الزمن.. “الآن”..

 لكنني لن أرفع الآذان فأنا لا احفظ صلاة الغائب..

انظر إلى الفراغ من علوّي وأحاول أن أركّب الصورة..  

حمص 1/11/2015

 موقع قلم رصاص الثقافي

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *