على الرغم من العقوبات المسلكية التي طبقت على “الماركيز دوساد” أثناء حياته وبعد وهلة من مماته، على أنه كاتب فاحش يخدش الحياء العام، إلا أن مؤلفاته ما لبثت أن أضحت جزء أصلي من منتجات عصر الأنوار، تناولته العامة والخاصة قراءة وتمحيصاً ونقداً وانتقاداً، كما جاراه الكثيرون من بعده وكتبوا وصالو وجالوا في النفس البشرية وغرائزها وثقافتها ومرجعياتها إنطلاقاً من الإعتراف بوجود هذه الغرائز وملحقاتها والتي ليس لأحد إنكارها، ليمسي إعلانها هو المشكلة، وهنا لا نريد الدخول في أية مناقشة أو تقييم نفسي أو أخلاقوي للماركيز دوساد ومن جاراه وهم كثر على أكثر من صعيد من صعد الإنتاج الثقافي/ المعرفي المتنوعة.
ولن نتداخل في مقولات الشماتة المكررة إذ أن خلود “ماركيز دوساد” في عالم الفكر والأدب، وإختفاء منتقديه، يثبت أن ما أنتجه هذا الخادش للحياء العام هو إنتاج عقلي أصلي أثر إيجابياً في سيرورة التنوير العالمية. بل نريد أن نلقي ضوءً على جانب بسيط من جوانب الأداء الاجتماعي (وليس المجتمعي بالطبع) “العربي” والذي أثارته الكاتبة عزة سلطان في العدد الماضي من “قلم رصاص”. هذا الأداء اليومي للناس الذي يحكمه منطق (منطق اجتماعي) متبدل من جهة، ومتطبق في أداءات علنية وسرية من جهة أخرى، حسب الخطورات التقاليدية والثقافية التي تحكم على الأداء، وهنا يبدو أن النشر/ الإعلان، هو المشكلة وليس وجود الحالة، أو الشعور بها أو إكتشافها معرفيا (إبداعيا أو تقريريا)، وهنا يبدو السؤال صغيراً جدا عن أيهما أحسن؟ ألإعلان أم التغطية؟ ولكن السؤال الأولى هو من أين سيأتي المشتغل بإنتاج (إبداعياً أو تقريريا)؟ من دون نشر (فضح إذا شئنا)، مع العلم هذه الأداءات موجودة فعلاً، ولها حيزها المؤثر في العلاقات الاجتماعية.
هل نفشي سراً إذا قلنا أن هناك وبشكل حتمي علاقات عاطفية وجنسية وصداقية خارج إطار الزواج موجودة في بيئاتنا؟ (على سبيل المثال لا الحصر)، وهل نعمم الفاحشة إذا تكلمنا عن نماذج وأسباب ونتائج هي من طبيعة المنطق الاجتماعي المعمول به في هذه البيئة؟ ليس مستورداً، وليس شاذاً عن الطبيعة البشرية، ولن تخرب الدنيا أو تنهار الأخلاق في حال وجودها وحصولها، والدليل أنها تحصل ليل نهار بين ظهرانينا، ولها أنواع وأشكال وظروف ومسببات ومبررات، تتجاوز كل المعيقات التقاليدية القامعة وحتى القانونية. ولنا في المصادفات الفردية وحدها (إذا لم نقل البحث والبحبشة والتصنت والمراقبة الخ) مايثبت وجود هذه الحالات ناهيك عن الخبرات الشخصية، وما ذكرناه حتى الآن يعود إلى ما قبل سعار استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، التي فتحت أبواب كثيرة للتلاعب والهزء من هذا المنطق الاجتماعي.
وهنا عند المنطق الاجتماعي علينا التوقف وإمعان النظر، فهذا المنطق المتبدل في أولوياته نتيجة المستجد المتاح، ينتج ظروفا جديدة تشرع الأبواب لإطلاق المكبوت بذرائع بيئية منطقية وصحيحة، إذاً كيف تردع شخصاً عن الحب، أو التخيّل، أو الحلم؟ فالمنطق الاجتماعي يفرض شروطه، ويبيح الفرص لتسديد الحاجات والأهواء وحتى الشهوات، ومن المهم أن نراعي نتائج هذا المنطق، فالمنطق هو مقدمات ونتائج وقد تكون هذه النتائج عديدة ومتنوعة وإحتمالية بناء على دواخل الأشخاص ونسيجهم النفسي التربوي وربما الجسدي أيضاً، يمكننا ملاحظة هذا المنطق في أفلام عبد اللطيف عبد الحميد ( نسيم الروح، وخارج التغطية مثالين) حيث تبدو إدانة العشاق في الفيلمين صعبة للغاية على الرغم من كونهم متزوجين، فهؤلاء تصرفوا بناءً على منطق اجتماعي قاسر، لا ينفع معه الردع “الأخلاقوي” تحت شعار التهديد بانهيار “المجتمع”!
لا تستطيع أية قوة إجتماعية مهما بلغت (جرائم الشرف مثالاً) أن تردع الغرام والهوى وحتى الجسد من إتخاذ مساره، والهلع من هذه القوة يغير تمظهراتها فحسب، فمن يستطيع أن يمنع زوجته من تخيل رجل آخر في فراشها والعكس صحيح أيضاً؟ وهنا تبدو الصراحة أي ملاحظة الحالة وتمظهراتها، ضرورة وليست خدشاً للحياء العام ولا تحريضاً من أي نوع كان، لأن الحياة هكذا شاء من شاء وأبى من أبى، ومن يستطيع ردعها فلا يقصر. فلكل شخص أن يتكيف مع المنطق الاجتماعي الظاهر منه والمبطن، وإذا أتينا هنا على مثال العلاقات خارج إطار الزوجية، فإن أمثلة أخرى كثيرة تنتظر تعدادها والإضاءة عليها ومقارنتها، وهي أمثلة عادة ما نتهم (الغرب) بها كأدلة على إنحطاط أخلاقه، ولكنها موجودة بين ظهرانينا بلا أية مبالغات أو إفتراءات.
وعليه: من أين سيأتي الكتاب والباحثون وحتى الإحصائيون، بموادهم الأولية؟ كي يصهروها ويعيدوا معالجتها وسباكتها ليضعوا منتجاتهم بين يدي التفكير العاقل؟ فإذا كان المجتمع ماشياً وبإخلاص على صراط التقاليد الحميدة، وليس هناك من خروج عليه أو استثناء أو مغامرة، والاجتماع البشري في حالة رواق تامة، فكيف للمفكرين أن يفكروا؟ وللمبدعين أن يبدعوا؟ فإذا أضفنا الإشارة إلى هذا النقص المريب في علماء الاجتماع المسؤلين عن دراسة الظواهر الاجتماعية الموجودة فعلا وتشخيصها، نكون قد وصلنا إلى نكران تام للحقيقة، الضرورية للعيش البشري، فالحقيقة هي وجود ومعرفة هذا الوجود، فإذا أنكرنا أحد الطرفين أو كليهما معاً، سنحصل على عتمة معرفية (يفوت) فيها الحابل بالنابل.
هل كان ماركيز دوساد (لم تترجم أعماله إلى العربية خفراً وحياءً عاماً) على حق عندما كشف عن خبايا النفس البشرية وتطلعات الغرائز وأسئلتها؟! لا أحد يدري في هذا العالم العربي الثالث والأخير.
مجلة قلم رصاص الثقافية