عامر العبود |
“امتازت المجتمعات العربية ببنيتها المتماسكة”، للوهلة الأولى تبدو هذه الجملة ذات دلالة إيجابية، لكنها ليست كذلك أبداً!، إنَّ التماسك الذي تمتاز به المجتمعات العربية هو حالة من الصلابة في البنية، إمساكٌ أكثر من كونه تماسك، سلسةٌ متتابعة، ومتصلة بدايتها بنهايتها لتشكِّل دائرةً، أتجرأ على تسميتها دائرة القهر العظيم.
في التفاصيل اليومية لحياة المواطن العربي تجليات كثيرة للقهر المتبادل بينه وبين أفراد القطيع، كلُّ فرد في هذه الجماعة ضحية، وجلاد في الوقت نفسه، كلُّ فرد هو مصدر القهر، وهو مستقرُّه.
الطفل العربي صباحاً، صراخُ أمَّهات، نظرات آباء تدبُّ الرعب في النفوس، فقد تأخر الجندي الصغير بالاستيقاظ كما يفعل كلَّ يوم!, يخرج حاملاً على ظهره حقيبته المدرسية، التي هي أثقل منه غالباً، وينطلق باتجاه المدرسة-المعتقل، هناك حيث ينتظره ثلة من الجزارين، الذين سيفتشون في عيونه عن النعس، ويفتشون أظافره، وشعره، علَّهم يحصلون على فرصة لاستخدام العصي، والكرابيج، التي يتفننون في صناعتها أكثر مما فعل الإنسان الأول لمَّا صنع أسلحته الحجرية، يربُّون القهر فيه، وللتربية وزارة مستقلة!.
الأب العربي أيضاً، لن يفوِّت فرصةً في التعبير عن سلطته في منزله، الذي هو مملكته، فالكثير من القهر سينتظره بمجرد خروجه من باب منزله، هناك معارك وسائل النقل، معارك مع عناصر المخابرات المنتشرين في الشوارع، معركة مع مراقب الدوام، مع مدير العمل, الذي بدوره لديه معاركه. بعد أن ينهي الأب يومه الزاخر بألوان الذل، يعود لبيته ليفرغ قهره في وجه زوجته، وأولاده، والزوجة التي قضت يومها المتعب بالأعمال المنزلية، وتعرضت لذات القهر منقولاً من المدير، إلى الزوج، إليها، ستفرِّغ قهرها بوجه أبنائها, الأطفال سيفرغون ما يتعرضون له من القهر في وجوه بعضهم, وسيكتنزون القهر في ذواتهم؛ حتى تأتي اللحظة المناسبة، كالحرب مثلاً، ليرموا كل ما جمعوه في وجه الوطن، وساكنيه، وزائريه، وقادته…
انظر لألعاب الأطفال مثلاً, كلُّها تعتمد على وجود شخصٍ سلطة يعذب الآخرين، حتى وإن لم يكن قانون اللعبة التي يلعبون يتطلب وجود هذا الدور، فسيبتكرونه, لأنَّ لديهم نزوعاً للتسلط، يرثونه، ويتشربونه باستمرار على مدار حياتهم، وإذا لاحظت اللعبة المفضلة لدى البنات مثلاً عندما يكن صغيرات، ويرغبن في تقمص دور المعلمة، إنَّهنَّ متسلطات، وصراخهن يعلو فوق البراءة التي تسكنهن.
إنَّ الفرد في هذا المجتمع يتعرض للازدراء من راكبي السيارات إذا كان راجلاً، من الزبون إذا كان نادلاً، من الإمام إذا كان مصلياً, من الحاكم إذا كان محكوماً، من الأعداء إذا كان خاضعاً، من الطيور التي تتبوَّل عليه لأنَّها أعلى منه مسافةً، ومن التجار حين يجوع، ومن الفقراء حين يشبع، ويتعرض للشتيمة من كل صاحب سلطة أعلى منه، ولو بدرجة واحدة، يسكنه الفقر أيضاً ليزيد قهره، والأساتذة يقهرون طلابهم، والمدراء يقهرون الأساتذة، والأعلى يقهر الأدنى، دائرة قهر!!
“البويجية” في الشوارع أغلب زبائنهم يبحثون عن شعور بالأهمية أكثر من كونهم يبحثون عن لمعان أحذيتهم، وهل تظن أن هذا “البويجي” سيعود إلى بيتٍ نموذجي فيه أطفال ودعاء، وزوجة مُحِبة؟!
يقف الأفراد ضمن دائرة، الأول يصفع الذي يجاوره على وجهه، الذي بدوره يصفع من يجاوره، ثم الذي يليه دواليك… حتى تعود الصفعة للأول، فيدخل المجتمع بدوامات القهر والعنف اللا نهائية، لا صدفةً! وإنَّما نتيجة طبيعية لكل القهر الممنهج الذي يتراكم في النفوس مع كل شهيق يشهقه الفرد، مُدنساً بالظلم، والذلِّ، والقهر، والفقر.
كاتب سوري ـ الخرطوم | خاص موقع قلم رصاص