صادف في اليوم المصادف 18/12، أني شاهدت بالصدفة مقطعاً من الفيديو يقدم دعاية أو إعلان أو إشهار، عن جهاز الكتروني فضائي صغير، هو عبارة عن سماعة أذنية بحجم حبة الحمص متصلة بجهاز موبايل ذكي، المتصل بدوره بالشابكة العنكبوتية المسماة (إستشراقاً) بالنت، أو الأنترنت، وتقوم هذه الكبسولة السمعية، بترجمة بين اللغات كأن، يتكلم أحدهم بالإنكليزية فتسمعه عبر السماعة القزمة بالفرنسية، تأملت هذا الاختراع العجيب، وسارعت إلى التفكير كيف يمكن لنا نحن الناطقين بلغتنا العربية الأم الاستفادة من هذا الاختراع الذي ينقل المعلومات بهذه السهولة والمباشرة بين اللغات، ولكن أول ما خطر لي وبصراحة هو التساؤل عن أية مؤامرة لئيمة يحيكها الاستشراق الحقير علينا، فأنا متأكد من وجودها، ولكني لا أرى حيثياتها أو الأدلة عليها، لذلك اعتقدت من الحصافة أن أتلطى وأراقب منتظراً بوادرها حتى أثب عليها وأطعنها في مقتل، ولكن لنؤجل هذا استراتيجياً لموعد لائق، ونعود إلى ذاك الاختراع العجيب، ولكن انتبهت إلى مؤامرة أخرى تتعرض لها لغتنا الأم وهي أنه في ذلك اليوم أي 18 /12 الذي قد خصصته اليونيسكو كيوم للغة العربية، وبالحصافة المعتادة اكتشفت مؤامرة اليونيسكو، فعندما نقول: يوم فلان أو جاء يوم فلان، نقصد بوضوح على أنه يوم وفاته وما بعده ليس سوى ذكرى، ويبدو أن المقصود هو دعم يوم اللغة العربية كذكرى، ولكن هيهات…، فاللغة نفسها، لغتنا نحن، كما نحن متصالحون عليه، ليست بحاجة إلى دعم وإلا نكون قد ارتكبنا معصية ورجمنا بالغيب… أوليس كذلك؟
لنعد إلى الاختراع وإمكانية استفادتنا منه، صحيح أن التفكير به قادني إلى تخيل أشخاصاً متفرغون يقومون بالترجمة بين الأشخاص في مكتب خيالي وضخم تماماً كما كنت أتخيل في طفولتي الأشخاص خلف شاشة السينما، أو داخل صندوق التلفزيون، وهذا ما قادني وببداهة إلى أنواع اللغة العربية الفصحى (وليس اللهجات العامية قطعاً) وتخيلت كيف لترجمان قابع في هذا المكتب الضخم أن يترجم الفصحى المغربية واليمنية أو الكويتية والسودانية من وإلى الفرنسية أو الإنكليزية أو اليابانية شفاهةً؟ مما أوقعني بحيص بيص، فعلى الأقل وبدايةً خطر لي لفظ حرفي القاف وأيضاً الجيم متنوع اللفظ وكيف يستطيع أن يقود الكلمة المسموعة إلى ترجمة صحيحة ولو بالحد الأدنى؟ فهذان متنوعا اللفظ فكيف لترجمان أنسي أو آلي أن يدغم هذه الفوارق، كيف يمكن لترجمان محايد تعلم العربية في إحدى بقاع العالم العربي أن يعرف أنها مدينة الرقة السورية، وهي تلفظ تارة الرغة، وتارة الرجة، وتارة الركة بالكاف أو بالـ g؟ ليصار بعدها لترجمتها إلى لغة أخرى مع العلم أنها كلمة فصيحة ..للغاية !! ولكن هذه الملاحظة الصغيرة جداً فتحت علي باب جهنم الأسئلة الأخرى، وهنا ليس على سبيل مشكلة الترجمة، فاللغة العربية ليست واحدة تماماً في كل بقاع تداولها، إلا إذا اعتبرناها وسيلة تفاهم فقط، ولكن استخدامها كونها وسيلة تصور فلسوف يبعدها مراميها جزئياً أو كلياً، وذلك عبر تأثرها الإيجابي بمحيطها أولاً (اللهجات العامية مثالاً) ، وباللغات السابقة عليها ثانياً، وهذه أمور لا يمكن تغييرها لا لطفاً ولا عنوة، فالتفاعل واقع لا محالة في حال نظرنا إليه بإيجابية أو سلبية، وهو ما يقود إلى صوتيات اللغة، والذهنية الكامنة وراء تراكيبها الاستعمالية، وقاموس الكلمات المختارة، والحالات الثقافية المعبر عنها، وهذا ما يصنع تصورات مختلفة، تحيد عن المقصود في الغالب، وهنا إذا تذكرنا كبسولة الترجمة الفورية أم نسيناها فإننا أمام واقع وجود لغات عربية فصيحة، تعبر عن حيوات إجتماعية متعددة تنهل منها شكلها النهائي.
ولربما ههنا يكمن الخلل حيث يسيطر عدم الاعتراف بالوقائع الثقافية المنتجة للغة، والتمسك بتعريف وتوصيف مشتهى لها. ولربما يصبح السؤال مشروعاً ومشرعاً تماماً حتى لو كان جارحاً، هل تموت اللغات؟ بمعنى يمكنها الاستمرار بالتداول في دوائر كبيرة أو صغيرة، كما يمكنها التنقل بين اللهجات العامية واللهجات الفصيحة المتنوعة، ولكن عمق هذا السؤال يركز على المصالح، فهل تحقق اللغات العربية مصالح ناطقيها (على الرغم من كل جمالياتها واتساعها وقابلياتها) ومستخدميها؟ هذا هو السؤال على حقيقته، وعلينا التوقف عن التحسر على لغتنا ونحن نرها تتسرب من بين أصابعنا كالرمل الناعم والتوقف عن تخيلها كبنية جاهزة لا تتأثر بالاجتماع البشري مهما تكن درجته، بل النظر إليها بجدية واقعية، والتفكر في تشخيص الأعطاب، التي لا يمكن التهوين من شأنها كمواساة لمحتضر، فالأعطاب ليست اختيارية حتى نختار الآمن منها بناء على ثقتنا المشتهاة (يقال مضللة أيضاً) بقوتها.
يعبر الدفاع العنيف عن اللغة المشتهاة وبكل الطرق التي عرفناها على الأقل، عن هشاشتها، ولا ينفع كثيراً تحميل مسؤولية هذه الهشاشة إلى أسباب لا يمكن تلافيها أو إلى مؤامرة ما (خصوصا أننا نفذنا الكثير من المؤامرات علينا بأيدينا)، كما لاينفع كثيراً إثارة النخوة لدعمها، فاللغة كائن حي كما أصحابها وحالتهم الاجتماعية فهي جزء منهم في عمليات تحقيق مصالحهم، فإذا أعاقتها فلا بد من تغييرات عضوية سوف تطرأ عليها، وإذا أفادتها ستحصل أيضاً تغييرات ولكن بنوعية مختلفة، حيث يطفو سؤالاً جارحاً وتأسيسياً، ولا يمكن الإجابة عليه إلا بمنتهى الجرأة والصراحة المعرفية الباردة والمحايدة، ألا وهو: هل تستطيع هذه اللغات “الألسن”ا لعربية مواكبة مصالح الاجتماع، والتفاعل معها ودعم هذه المصالح؟ في الوقت الحاضر وعلى هذه الكرة الأرضية بالذات وفقط؟ أعتقد أنه على جميع النائحين المتحسرين في “يوم” اللغة العربية عدم التسرع والرد، لا شعاراتياً ولا تحليلياً، بل أن يتمعنوا ويدققوا ويتمحصوا قبل الإجابة إن التشخيص في هذه الحالة لا يحتمل الثقة المضللة بالرأي.
يسارع الكثيرون إلى لصق اللغة بالهوية،لا بل إعتبارهما شأن واحد، مما يجعل مفهوم الهوية ضبابياً وموارباً، وكذلك مفهوم اللغة بالنسبة إلى دورها في الوجود الاجتماعي، ما يرفع دور اللغات الأخرى المشاركة في المجتمع الى مرتبة دور صانع لهوية أيضا، وهي هوية قومية على الأغلب ليصبح دور اللغة تقسيمياً بدل أن يكون توحيدياً يشد أواصر الاجتماع البشري ويدفعه كي يكون مجتمعاً بالمعنى المعاصر للكلمة.
وهنا تأخذ العواطف والأمنيات شكلاً ايديولوجياً راديكالياً تنعدم على أساسه الحاجة إلى المعرفة والتشخيص، فيصبح الرأي وكذلك البحث في الموضوع مرتبطاً بالنوايا، أكثر مما هو مرتبط بالوقائع والمصالح والأفعال.
اليوم هناك العديد من البلدان العربية لا تحتاج فيها للغة العربية أثناء ممارسة العيش، وهناك بلدان عربية لا تنفعك فيها العربية ولا تسعفك للعيش، وهناك لغات لغات عامية كاملة “عربية الجذر” ومختلفة كل الاختلاف عن بعضها، لدرجة أن الشعر يكتب بها وهو شعر شديد الأهمية والحساسية بعروض مختلفة عن العروض الكلاسيكية، والشعر هو في الأصل ديوان العرب !!!!.
هناك فارق واسع بين موت اللغة واندثارها، الموت هو بتوقفها أو توقف مقدرتها على تمثل المصالح الاجتماعية، فردية كانت أم جماعية من إنتاج وتحصيل ومنافسة وطرق تواصل وإلخ، وهو أمر لا يمكن توصيفه بابتسار أو انفعال، ولا يمكن تجاوزه بالوعيد والتخوين، إنه مسألة معرفية كاملة الأركان تجب الإجابة عن أسئلتها المعرفية مهما كانت متشعبة وجارحة، وطبعاً إذا كان الموضوع بهذه الأهمية “المشتهاة”؟! كما يدعي المتأدلجون لغوياً على الأقل، أما اندثار لغة ما فهو لم يعد وارداً في عصرنا الحالي ليس بسبب وظائفها أو جمالياتها بل بسبب التطور الهائل في وسائل الحفظ والأرشفة التي تتطور باطراد حافظة كل أنواع منتجات المعرفة الإنسانية المتوفرة.
هل يمكن اعتبار كبسولة الترجمة الإلكترونية التواصلية الفضائية، فرصة لدعم اللغة العربية؟ أم سوف يستعصي عليها إيجاد اللغة العربية المناسبة، لتمثل مندوب التواصل المصالحي بين لغات العالم؟
مجلة قلم رصاص الثقافية