زيد قطريب |
مرَّ اليوم العالمي للغة العربية بصمت، ذلك التاريخ الذي اختارته الأمم المتحدة في الثامن عشر من كانون الأول لصدور قرارها بدخول اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في مؤسسات المنظمة الدولية، تحول إلى يوم مطوي في روزنامة الثقافة والأدب إلا فيما ندر من أضعف الإيمان الذي يتمثل أحياناً محاضرة داخل مركز ثقافي مقفرٍ ومرات أخرى في مقال داخل جريدة كنوع من الواجب ليس إلا بعيداً عن أي تجديد أو اختلاف في الطرح!.
أصحاب لغة الضاد ليسوا أفضل حالاً من لغتهم الأم التي يتم الاحتفاء بها فقط عبر الرجوع للمعجم من أجل اقتفاء لفظةٍ أو للحصول على أسماءٍ للمواليد الجدد!.. كأن هذه اللغة تحولت إلى متحفٍ ومجموعة أراشيف منسية تنتظر من يفرزها بشكل مهني قبل أن تضيع في زحمة التكنولوجيا وغرام الجيل الشاب باستخدام الحرف اللاتيني للكتابة عبر وسائط التواصل الاجتماعي!.
من النادر أن نلتقي طالباً أو خريجاً جامعياً يستطيع أن يفرّق حالات فتح همزة إنَّ عن حالات كسرها، فمنذ أبو الأسود الدؤلي (توفي 69هـ)، ولاحقا الفراهيدي والجاحظ والأصمعي وعبد القادر الجرجاني (توفي471هـ)، لم تشهد هذه اللغة إضافات هامة جرّاء خروج أصحابها طوعياً من التاريخ حاملين لغتهم التي قال الشاعر اللبناني حليم دموس إن حروفها الجميلة، ما إن تقع على مسامع المرء، حتى تترك مفعولاً سحرياً يبرد الأكباد..
ما نشهده من إطلالات لهذه اللغة في وسائل الإعلام، لا يتعدى كونه عودة إلى معاجم الماضي مثل المنجد وتاج العروس ومختار الصحاح ولسان العرب وأسرار البلاغة، من أجل النسخ منها فقرات على حجم زاوية لا تُؤتي ثماراً ولا تقوّم ألسنةً خاصة في ظل تكرار النسخ واللصق دون أي أثر للأبناء الذين أصبحوا غريبين عن هذه اللغة بسبب عوامل متشعبة وكثيرة أهمها ارتباط هذه اللغة بالنص الديني الذي وضع خاتمة نهائية لإمكانية تطور اللغة ومواكبتها للعصر إضافة إلى تحول الناطقين بها إلى مستهلكين في الاقتصاد والثقافة وبقية مناحي العلم طيلة مئات طويلة من السنوات تبدأ على الأرجح قبل سقوط بغداد بيد المغول!. وإذا كانت كل لغات العالم الحية يتم رفدها بعدد كبير من الألفاظ سنوياً، يمكننا أن نتخيل حجم المأزق الذي يحدق بلغة الضاد في ظل وجود السلفيين من كل حدب وصوب، أولئك الذين يعتقدون بضرورة المحافظة على قواعد العصر الجاهلي والقرون الهجرية الأولى في اللغة والمأكل والمشرب واستنشاق نسمة الهواء، دون أن يدركوا أنهم يسهمون عملياً في خنق هذه اللغة وإبقائها على رفوف متاحف الذاكرة ريثما يتم إعلان الموت عبر تراكم الزمن!.
قبل الإسلام، كانت اللغات السورية القديمة تتطور بشكل طبيعي وفق آلية التطور الحضاري، لكن النص الديني كان من أوائل المساهمين في وضع خاتمة للغة بسبب الربط الوثيق بينها وبين والدين بشكل يصعب الفكاك منه، لهذا ربما يصعب الخروج من المعجم الذي قام النص الديني بصياغة ملامحه النهائية بما يتناسب وكامل الأيديولوجيا التي شرحها عن مفهوم الدنيا والآخرة!.
عباءة العربية اليوم مثقّبة بالكلمات الأعجمية، وعلى الأرجح أن تُحدث العولمة تعديلات جوهرية على هذه اللغة قد تكون إيذاناً بتحولها فعلياً إلى لغة مهددة بالانقراض بسبب استقالة أصحابها من انتاج التاريخ أو صناعته كما يفترض بجميع الشعوب الحية.. فلغة الضاد التي أخذت من كل اللغات السورية القديمة مثل البابلية والآرامية والسريانية والأوغاريتية، وضعت حداً للتطور اللغوي الذي كان يسير بشكل طبيعي قبل ولادة النص الديني، لينشأ إثر ذلك تحالف كبير بين مجموعة الغيبيات والمعاجم اللغوية بحيث لم يعد أحد من مصلحة أيّ من هذه الأطراف السماح بإحداث أي تطور في هذه اللغة لأن ذلك سيعني تطوراً في التفكير!.
في اليوم العالمي للغة العربية، الذي لم يختره العرب عملياً إنما كان بقرار من الأمم المتحدة كما أسلفنا، تحتاج لغة الضاد آفاقاً أبعد مما رواه الشنفرى وعنترة وغيرهم من شعراء الجاهلية وصدر الإسلام.. ألا نكاد نسمع اللغة نفسها ونحن نمشي في منطقة الفحامة مثلاً رغم مرور ما يقارب سبعة عشر قرناً على موت الشنفرى ونحو أربعة عشر قرناً على وفاة أبو الأسود الدؤلي؟… تلك اللغة التي كانت حصيلة لغات عالم قديم كامل، تختنق دون أن يُدخلها أحد غرفة الإنعاش!.
شاعر وكاتب سوري | خاص موقع قلم رصاص