عُلا ماشفج |
كان الطابور أمام الصراف الآلي يمتد إلى آخر الشارع، لكن لا بأس لأنني أمتلك ساعة حتى يحين موعد المحاضرة القادمة يمكنني إضاعتها هنا. وقفت في الصف وقد شتتني أفكاري وبعد ربع ساعة لم أتقدم فيها خطوة واحدة إلى الأمام لا في أفكاري ولا في موضع قدمي، لاحظت أن الحشد أمامي لم ينقص شخصاً. سألت العجوز التي تقفُ أمامي:
– هل تعطل الصراف؟
– ردت بعصبية: لا!
– إذاً ما الأمر؟ –
– أدارت رأسها تنظر إليّ وكأن الكلام لن يخرج من فمها بل من عينيها، فكان المزيج من الاثنين؛ الأول همس لي “إنها أم سعيد” والأخيرة زمجرت “تباً لها”.
– حسنا؟!
– تدخل عجوز آخر كان يتنصت علينا قائلاً “هي من جوا” -أي أنها من موظفي المصرف- محاولاً أن يلملم نظراتي المتعجبة التي التقطتها راداراته الحكيمة بأنها نذير مشاكل قادمة.
ومما زاد الطين بلة رجال ونساء يتوافدون بين الحين والآخر ليعطوا أم سعيد بطاقاتهم المصرفية لتسحب لهم النقود وعندما تتعالى أصوات الاحتجاج تخفيها أم سعيد بكلمات سحرية مثل “هذه بطاقة رئيسة الدائرة أو بطاقة المدير العام”. حينها تحققت نبوءة العجوز المتنصت وكانت المشكلة التي بدأت بكلمة مني وانتهت بعشرات الحناجر الغاضبة فما كان من أم سعيد إلا أن هربت واختبأت في المصرف.
بعد أن انتهت الدراما المصرفية ركبت الحافلة وعلى الطريق إلى الجامعة رحت أفكر في أمثال أم سعيد الذين صادفتهم وسأصادفهم خلال الأيام التي كُتِبَ لي أن أعيشها حينها لم ينتابني أي قلق أو خوف لأنني على ثقة بأنني وفي أسوء أوضاعي الدفاعية قادرة على التعامل معهم. لكن لِعَادَتِي في الغوص بالماورائيات وبواطن وخفايا الأشياء سألت نفسي: ماذا عن أم سعيد التي تسكنني؟ تلك التي تقف حاجزاً بيني وبين ما أرغب وأتمنى لتطفأ لهفتي وشغفي وطموحي بجمل تافهة تماماً كالتي استخدمتها موظفة المصرف “لا تستطيعين فعل ذلك للسبب الفلاني”. “أم سعيد المعنوية” هي نوعٌ خاصٌ من الخوف الذي يترصد كل خطوة غير مألوفة أو مسبوقة نقوم بها، هي مجموعة القيود التي تكبلُ دورة أفكارك الداخلية، وتعطي أحلامك ورغباتك مسار محدد مقبول لتخطوا عليه.
يجد جافين دي بيكر في الخوف جرس إنذار أو بدايات حدس يحمينا من المصائب التي قد تحل بنا، علينا أن نستعين به لحياة أفضل ولهذا الغرض ألف الرجل كتاب “نعمة الخوف” – الذي يجدر بحسب رأيي الشخصي تصنيفه كرواية بوليسية سيئة لا ككتاب فلسفي أو مُؤَلف في علم الاجتماع والنفس- لكنني لطالما اعتقدت أن الإنسان الحر هو الذي يحيا بلا خوف وقيود داخلية قبل الخارجية لذا يصعب علي أن أجد في الخوف أي نعمة أو مباركة . نظرت إلى وجوه الركاب المكفهرة وفوراً بدت لي أم سعيد في حركاتهم الخجولة وأصواتهم المحايدة وشحوبهم وخطر لي لعلنا بحاجة إلى كتاب “نعمة الندم” لنحرك هذه الحفلة!!
من الزاوية التي أحدثكم منها يجب أن تجدنا نحشد جيوشاً لمحاربة استبداد أم سعيد الفكري -كما ندعي- لكن في الحقيقة لو أنك ذهبت لزيارة المدينة القديمة ستجد في أزقتها الضيقة صور أم سعيد تباع كأيقونات صغيرة يلبسها الناس على صدورهم للحماية والمباركة. ففي “سورية” هذه البقعة الصغيرة من العالم والتي هي جزء من الخريطة الجغرافية الكبيرة للوطن العربي الذي يحيط به الخوف من الجهات الأربعة، ستجد مجموعة كبيرة من العقد والسلاسل التي تنتظرك ما إن تولد. لكن على الرغم من أننا نعترف بوجود هذه المعيقات لأسباب ذاتية نفسية وأخرى موضوعية لا ينبغي أن ندعها تسيطر على حياتنا أو على الأقل كافة جوانبها، لذا في المرة القادمة التي تلمح هذه القبيحة أم سعيد تقترب منك واجهها باتخاذ وضعية الحسناء مارلين مونرو وردد عليها جملتها الشهيرة “الخوف غبي” واذهب لتقبيل تلك الفتاة التي تحبها (لكن أرجوك قبل القيام بذلك تأكد من رغبتها في هذه القبلة) أو اطلبي من متبلد المشاعر الجالس أمامك كأنه جزء من الأريكة الخمرية الطلاق أو احتجزي نفسك في الغرفة لأيام وأسابيع وشهور حتى يقبل والدك أن تكملي تحصيلك الجامعي ومن بعده أن تبدئي بمسيرة مهنية خاصة بك. وإن ساءت الأمور وعادت أم سعيد لتلوح في الأفق ردد الجزء الآخر من مقولة مارلين “كذلك الندم”.
“الخوف غبي، كذلك الندم”
طالبة إعلام جامعة دمشق | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية