“التعليم…إنه الحياة ذاتها”
تأسست جامعة حلب عام 1958م، وهي ثاني جامعة في سورية بعد جامعة دمشق، ويدرس فيها أكثر من مئة ألف طالب جامعي، وأكثر من ثلاثة آلاف باحث في الدراسات العليا ، والفريد أنها تمتد على مساحة جغرافية واسعة متصلة نوعاً ما داخل مدينة حلب على اختلاف كلياتها ومعاهدها المتنوعة، وكانت وما تزال واحدة من المعالم الحضارية في حلب، حيث استضافت على مدرجاتها أبرز المثقفين مثل: عبد السلام العجيلي وعمر أبو ريشة ومحمود درويش ونزار قباني الذي ألقى فيها قصيدته الشهيرة: ” كل دروب الحب تؤدي إلى حلب” سنة 1980م .
عانت جامعة حلب من ويلات الحرب السورية، وطالتها آثار الأزمة من نقص في الكادر التعليمي نتيجة هجرة الكثير من العقول، ونقص المواد الأولية الضرورية للتجارب في الكليات العلمية، وتعطل الكثير من العروض والمحاضرات بسبب عدم وجود الكهرباء، واختلال نظام التعليم نتيجة قسوة ظروف الطلاب، فكانت هناك دورات امتحانية إضافية دائماً، مما هدّد الاعتراف العالمي بها، وتحذيرها بسحب الاعتراف بالشهادات الصادرة منها، ومع أن دافنشي يقول: إن “التعلَم لا يرهق العقل أبداً”، إلا أنه بات عملية مرهقة للجميع في الحقيقية، أساتذة وإداريين وطلاباً.
بالإضافة لما سبق فقد تحول السكن الجامعي في وسطها إلى مركز إيواء لمن فقدوا منازلهم، وهذا يعني معاناةً كبيرةً لطلاب الريف والمدن القريبة من حلب، مما جعل البعض يسافر يومياً مخاطراً بحياته ووقته في ظل انعدام البدائل، أو عدم الحضور لمن يسكن المدن البعيدة والاكتفاء بتقديم الامتحانات، أو استئجار شقة وزيادة الأعباء المادية الصعبة أساساً في ظل الانهيار الاقتصادي، أو حتى عدم المحاولة ضمن تلك الخيارات الصعبة والانقطاع الكامل عن الجامعة، يقول أرسطو “التعليم ملاذ في الشدة”، بيد أنه تحوّل إلى جحيم حقيقي للكثيرين، عدا عن تحول السكن الجامعي نفسه إلى مرتع للقمامة والأوساخ، حيث يعيش مئات الناس بدون ماء في ظل أزمة المياه الخانقة في المدينة.
بعيداً عن تلك الصعوبات الحياتية لم يكن الوضع الأمني أفضل حالاً، فقد قمعت القوات الحكومية المظاهرات الطلابية في بداية الأحداث بقسوة، واعتقلت عشرات الطلاب، كما بات التشديد الأمني واضحاً عند الدخول والخروج من الجامعة، ونشطت الفرق الحزبية ضمن الجامعة، وفردت أجنحتها مقارنة بدورها الهامشي قبل الأحداث، يقول الرئيس الأمريكي السابق جيمس ماديسون: “التغيّر هو النتيجة الحقيقية لكل التعليم الحقيقي”، يحق لنا أن نتساءل عن جوهر التعليم الذي اكتسبناه، ونحن نرى النكوص المباشر في الأزمات نحو طرق تعاملٍ المفترض أنها انقرضت، من جهة أخرى دكّت فصائل المعارضة المسلحة منطقة الجامعة بعشرات القذائف على مدى الأعوام السابقة، بحجة أن المنطقة خاضعة لسيطرة النظام السوري، مما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين، فإن كان “التعليم جواز السفر الحقيقي للمستقبل” حسب الناشط الحقوقي مالكوم إكس، فقد بات جواز العبور للموت لكثيرٍ ممن أرادوا التشبث به في الحرب.
في 15/1/2013م كنت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية حيث أدرس، الكلية المجاورة لكلية العمارة التي قصفت بالطيران أو بالقذائف الصاروخية في ذلك التاريخ، وكما كل المآسي التي جرت في سورية لا أحد يعرف ما هي الحقيقة، حيث تبدأ الأطراف المتصارعة بتراشق الاتهامات كالعادة وتبرئة نفسها، المهم أن أكثر من 82 طالباً استشهدوا في تلك الواقعة، مع مئات من الجرحى في أكبر فاجعة طالت جامعة حلب، عندما أنهيت دوامي في ذلك اليوم، كنت أريد أن أذهب لأزور صديقتي التي تعمل في كلية العمارة، لكنني عدلت عن رأيي، وذهبت باتجاه المنزل، ولو أنني سرت باتجاه مكان عملها، لكنت حتماً من المتأذين، ففي الوقت الذي جرت فيه الحادثة، سأكون في أفضل الحالات في الساحة الخارجية للكلية لا داخلها، عندما سمعت الخبر كنت في الطريق للمنزل، اتصلت بصديقتي لكنها لم تجب، اتصلت بمنزلها عندما وصلت لكنها لم تكن قد عادت بعد، في المساء عندما عاودت الاتصال تحدثت معي بانهيار، أخبرتني أنها كانت في إحدى القاعات بجوار النافذة، وأنها طارت من مكانها من هول الانفجار، ودخلت الشظايا الزجاجية في يديها، وأنها كانت محظوظةً لأنها نالت هذا القدر فحسب، وتم إسعافها، أخبرتها أنني أيضاً محظوظة، ونجوت من موت محقق أو إصابة بليغة فيما لو ذهبت لأراها، ولعنت العلم والتعليم الذي سيفقدنا حياتنا في بلاد ملعونة بالحرب، أنا التي طالما تبنيت مقولة الفيلسوف جون ديوي:” التعليم ليس استعداداً للحياة، إنه الحياة ذاتها”!
مجلة قلم رصاص الثقافية