حسين الموزاني |
أودّ أنّ أورد هنا مثلين إثنين، واحداً منها عراقي المرجع والآخر ألمانيّ، وكلاهما يتعلّقان بالثقافة والأدب والأدباء وسياسة الجوائز.
كانت هناك عائلة عراقية تكنّي ببيت شرهان وتقيم في ريف “العمارة” حيث ولدت، وكانت فقيرة الحال مثل جميع العوائل في تلك المنطقة، فتضطر إلى التقتير في العيش، وكانت تحرم حتّى كلبها أحياناً من الخبز . وحدث أن زارهم أقرباء من بغداد وجلبوا معهم كيساً كبيراً مليئاً بالحلوى والسكاكر. فأكلوا منها آل شرهان حتّى أصيبوا بالتخمة، ثمّ إلى رموا حفنةً من السكّاكر إلى كلبهم، فهرب وصار ينبح ويعوي مذعوراً ولسان حاله يقول بلغة أهل العمارة: „ولكم مناعيل الوالدين حرف رصّاعة يابسة ومحترجة ما تذبّون علي، أنوب حامض حلو؟ يا بوبه ألحكلي!“ ولا أظنّ أن هناك حاجةً لترجمة هذا الكلام، لأنّ الغرض مفهوم. لكنّنا نودّ أيضاً أن نعزز ذلك بمثل عراقي آخر يفيد بالغرض أيضاً، وتلك مجرد أمثال نضربها للناس لعلّهم يفكّرون ويتأملون قليلاً، يقول: „شبع بطنه وربّاله جرو”، بمعنى أنّه شبع أولاً ثمّ ربّى كلباً صغيراً، وهذا عرف سائد وينطبق على جميع الشعوب. ودوّن الكاتب المسرحيّ الألماني برتولد بريشت عبارته الشهيرة في مسرحية “أوبرا القروش الثلاثة”: „في البدء يأتي التهام الطعام ثمّ الأخلاق فيما بعد”.
ويبدو أنّ دول الخليج العربي التهمت ما يكفي من الطعام حتّى أصيب بالتخمة، فصارت ترمي بقطع الحلوى والفضلات على هذا الكاتب أو ذاك، لا حبّاً به ولا بشعره ولا بشعرته، إنّما فقط لتحوّله إلى كلب خانع وذليل، وهذا هو مرض الأثرياء العرب الجدد الذين يريدون إذلال من هو أعلى منهم شأناً ومنزلةً وأدباً، غيرةً وحقداً، في حين يعتبره الأدباء المغرر بهم تكريماً. فقد أدركت هذه الدول أنّ “المثقف” و”الكاتب” العربيين تخفّ أقدامهم على رنين الدرهم والدينار، والشيكل أحياناً، مثلما فعل القطب الإعلامي القطري عزمي بشارة مثلاً، والذي يريد أن يحرر فلسطين! ولمَ لا؟ فماذا مثلاً لو قدّم النظام السوريّ الآن جائزة باسم “جائزة الأسد للأدب العربي” وبقيمة مليون دولار، وهو بالمناسبة مبلغ مبنى واحد محترق في حلب، فهل سيتقدم لها أدباؤنا الكرام؟ أو حزب الله بجائزة نصر الله؟ فهل تغيّرت الصورة الآن؟
زين، الألمان يقولون إنّ من يعطي المال يطلب الموسيقى أيضاً. لكن المثقف العربي لا يهمه إيقاع الموسيقى التي سيرقص عليها لكي ينسى حرب العراق وتدميره وحرب سوريا وتدميرها وحرب اليمن وتدميره حرب ليبيا وتدميرها وحرب السودان وتقسيمها واحتلال البحرين وإقامة القواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية والبريطانية في بلدان الخليج العربي. كلا هذه كلّها ليست بمشاكل أبداً، طالما كان مبلغ الجائزة دقيقاً ومضبوطاً وبالعملة الصعبة. ولم يخطر في بالهم قطّ بأنّ الجائزة تحمل اسم رجل أمّي، وقد منّ عليه الله بهذه الميزة حتّى لا يقرأ ما يكتبه هؤلاء الأدباء والشعراء والمثقفون.
ونطرح هنا سؤالاً بسيطاً ، أو نضرب مثلاً آخر: إذا كان هناك أكثر من ألف مفكّر و”باحث كبير” في المغرب العربي وحده، فلماذا لم تقدم الحكومات المغربية المتعاقبة، العلمانية منها والإسلامية، على التبرّع بجائزة أدبية، أو عدد من الجوائز، وتكون مفتوحةً لجميع الكتّاب في العالم العربي، ويكون مبلغها يضاهي مبالغ جوائز دول الخليج، ولتحمل اسم أحدّ أعمدة الثقافة والفكر في البلد أو اسم مدينة عريقة عند الضرورة؟ وهل المغرب بلد فقير مالياً؟ كلا، إنّما لأنّ حكومات هذا البلد لا تقيم وزناً للأدب والفنّ والمعرفة الإنسانية ولا لصنّاع الثقافة، فتجعل أبناءها يتكالبون على الجوائز المشبوهة التي يمنحها أمّيون مغرضون وانتهازيون وقتلة. وينطبق هذا المثل على الجزائر بصورة خاصةً، رغم أنّ مبلغ الجائزة قد لا يتجاوز مبلغ أحد الكراسي المتحرّكة للسيّد عبد العزيز بوتفليقة.
وهل هو رئيس الجمهورية في الوقت الحاضر، دون أن أنظر في الويكبيديا؟! أو مصر، حيث تعادل ابتسامة السيّد السيسي وحدها عشرة ملايين جنيه، والنبي يابه، يابه! أو تونس حيث لا يتجاوز مبلغ الجائزة الأدبية ثمن حذاء واحد من أحذية السيّدة ليلى، عقلية الرئيس المخلوع بن علي.
والآن نرجع إلى الألمان: كنت قد نشرت مختارات لأربعة شعراء ألمان في عدد خاص من مجلة “إبداع” المصرية وذلك في عام ١٩٩٣، وكان من ضمنهم “هانس ماغنونس انتسنسبيرغر” والذي اسمه وحده كافياً لجعله منسياً بالنسبة لمعظم القرّاء العرب والأجانب معاً. وقام انتسنسبيرغر آنذاك باختراع آلة أوتوماتيكية تلقمها قطعةً نقديةً فتعطيك قصيدةً، وأسس كذلك دار نشر جديدة. وكنت أحب اللقاء به والتحدّث معه لسعة اطلاعه وصراحته وذكائه الشديد. وسألته ذات يوم لماذا يا سيّد انتسنسبيرغر ترفض أن تنشر لي كتاباً؟ فقال لأنّ اسمك بالألمانية يكتب بعلامة شارحة Al-Mozany والقرّاء الألمان لا يحبّون هذه الأسماء الغريبة الإيقاع والصعبة اللفظ. فقلت له: لكنّ اسمي ليس أصعب من اسمك بالنسبة للقارئ العربي، ثمّ إنّ هذا لقبي ولا يمكن أن أختزله إلى موزاني ليصبح سهلاً مثل اسم “موتسرات” طمعاً بالشهرة! فقال إنّ الأمر لا يتعلّق به وحده باعتباره ناشراً، إنّما بذائقة الألمان عموماً. ثمّ تحدّثنا عن الجوائز فقال لي: ألا يخجل أدونيس هذا من الركض وراء الجوائز؟ على ماذا يريد أن يحصل؟ أعلى المزيد من المال أم المزيد من الشهرة؟ أليس لديه ما يكفي من المشاكل والهموم؟
وبعد حين اجتمع أمامه عشرون مصوّراً وصحفياً على الأقل، فخاطبهم انتسنسبيرغر: ماذا تريدون منّي؟ أليس المؤتمر كلّه عن العراق؟ فلماذا لا تسألون هذا الرجل القادم من العراق نفسه؟ ثمن التفت إليّ وقال: إنّهم قطيع من الكلاب، وسيتركونني فوراً إذا ما ظهر غونتر غراس الآن، لأنّه حامل جائزة نوبل للآداب!
وبهذا المعنى فإنّ الجوائز تحطّ في الواقع من شأن حامليها ومن قيمة الكتّاب الحقيقيين المدافعين عن شعوبهم وثقافاتها، خاصةً إذا ما قدمت هذه الجوائز من دول لا علاقة لها أصلاً بالأدب والفنّ والثقافة والأخلاق.
أديب ومترجم عراقي راحل | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية