عاصف الخالدي |
يقول مونتيسيكيو: “الطاغية بكل بساطة، لا يحفل بالتقاط الثمر، إنه يقطع الشجرة نفسها، ليحصل على ثمرها، ويفعل هذا في كل مرة”. بعد سنوات من قراءتي لبرتولد بريخت ومونتيسيكيو، أستحضر الاثنين، وأنا أرى المبارزة العقيمة، لجموع المثقفين العرب، ولوسائل الإعلام العربية، فيما يخص الحرب السورية، والتجريف اليومي القائم بحق البقعة التي تقطر دماً على الخارطة، فيختلف المجموعان على كيفية شرب دمائها، في معركة فروسية، يمتطون فيها صهوات صفحاتهم، ومنابرهم الإعلامية المبرمجة، ويطلقون كلاب صيدهم لتلتقط تصريحات الآخرين، وصور الموت وتقارير أجهزة التلفزة، ثم تعود لاهثة إليهم، حتى يتمكنوا من إطلاق ردود معاكسة.
يتجلى مسرح بريخت، في رؤيته للطغاة، سواء كانوا محتلين أو سواهم. أو قادة مؤسسات إعلامية أو غيرهم. المهم أنه يراهم في جميع حالاتهم، يضعون الشعب في حظيرة كبيرة، ثم يقررون إكرام المثقفين، فيضعونهم في حظيرة أكثر ترفيهاً، ربما تحوي كتباً ومصطلحات أدبية وسياسية قيمة، المهم أن يكونوا في حظيرة غير حظيرة الشعب. في بداية تحرك الشعب السوري، أتت قنوات عربية بكتاب وأدباء ومحللين سياسيين ومهرجين ومغنين، وسألتهم كلهم سؤالاً واحداً: أين أنتم من تنبؤات وتوقعات الثورات؟، أين أنتم من شعوبكم؟. وبالطبع، كان الجميع يلثغون وهم يجيبون. أو يبررون. فيما جيلنا الشاب يتفرج، ليرى مثقفيه الذين راكموا خبرة طويلة في العيش والقفز بين أحضان كيانات متحركة أسسها الاحتلال قبل قرن تقريباً، يتفرج على براعتهم في الالتحاق بإحدى الأطراف، والتطرف فيما بعد، حيث حمل كل طرف منهم مطرقة، بعد أن وضع جسد سوريا على الطاولة، وانهال كل منهما بدوره، رداً على الآخر، واحدهما يضرب ويصرخ: حرية، والآخر يضرب ويصرخ: وطنية.
اشتد النزيف، وانضمت الصحافة العربية المكتوبة إلى الجوقة، وانضمت الجوائز الأدبية والشعراء، وانضمت حقوق وصلاحيات النشر كذلك، وانضم المجتمع الدولي فيما بعد، ليقوم بتنظيم الجريمة مؤسسياً، وليمد أنابيب إنسانيته حتى يقونن عملية ضخ الدم السوري العربي في قنواته، ثم اشتد النزيف أكثر، وصار الطرفان يتنازعان الضحية، وصار المواطن السوري طريدة، من حق أي طرف أن يصطادها، لكن الأهم بعد ذلك، هي طريقة عرضها على العالم. واجتذاب تعليقات البشر عليها، وترك الفتاوى الدينية والسياسية والإعلامية لتوظف قتلها، فتندبها، ثم تلتهمها في كل الأحوال.
بالعودة إلى مونتيسيكيو، فمن الجيد لو أنه عاش، ليرى كيف يتم القتل لأجل المبادئ، وكيف يمكن لرجال (مبدئيين)، احتلال مدينة، فإذا أُخرجوا منها بالقصف وقتل أهلها، قصفوها هم أيضاً. ذلك أن الطاغية الذي تمثله مبادئهم، لا يسمح لهم بالتراجع، دون إحداث أثر ما. يعمل كلا الطرفين على تحقيق رؤية مونتيسيكيو للطاغية. يتبادلان الأدوار، فتخيل لو كان أحدنا محايداً، سيكون طريدة للجميع، من أصغر مثقف وموظف صحيفة، إلى أبشع محارب، إلى أضخم طاغية.
أتذكر اليوم، أن ملوك الطوائف في الأندلس، تحالفوا مع أعدائهم ليقوضوا ممالك بعضهم البعض، وكان من أبرز إنجازاتهم مثلاً، أن قتلوا الفلسفة، وأحرقوا كتب ابن رشد، وأثبتوا لطارق بن زياد أنه يمكن بيع المدن وإحراق اليابسة كما يمكن إشعال النار في عرض البحر، لأجل العدوان والطغيان، لا أكثر ولا أقل.
من الغريب، أن يصنع المبدأ محارباً قاتلاً وطاغية، في زمن ما بعد الحداثة هذا، وهو زمن مثير للسخرية حقاً، حيث تم فيه أول إعلان عظيم عن حقوق الإنسان، وكان الإعلان يعني في فحواه أن لا ذنب للطفل والمرأة والشجر والحجر والناس المسالمين في حربٍ لأحد، فهل وصل هذا الإعلان حقاً إلى (الشرق)؟. بالطبع لا، إذ تثبت الحرب السورية اليوم، أن سوريا مذنبة بالنسبة للجميع، لأن فيها شعباً. لا يمكن لإعلان عالمي حديث أن يصل إلى (عالم عربي) توقف فيه الزمن منذ أمدٍ طويل، بحيث يسمح للعالم الجديد بالنظر إلى (الشرق) كحديقة حلفية للصيد والقتل والمغامرات الشمشونية، و في هذا إشارة لاستمرار اصطدام العالم القديم بالعالم الجديد، والتي تتكرر اليوم بعد مرة عظيمة، حين احتل العالم الجديد عالم الهنود الحمر في الأمريكيتين، فأباده، كان اصطداماً مدوياً لعالمين، عتيق طبيعي، وطاغ يريد أن يمتطي الطبيعة ويلتهم العالم. ومع تطور العالم اليوم، تغيرت النظرة، فتم الإعلان عن حقوق الإنسان، وترك لنا الأمر، حتى نصفي بعضنا، ونجرف بلادنا بأنفسنا، إذ إننا لسنا عتيقين ولا طبيعين، لكننا، مبدأيون!
جيلنا هذا، لا يريد أن يذهب إلى المستقبل كشبح، ولا يريد أن يهاجر، حتى ترتطم جثته في الأخير، بصخرة قابعة في شاطئ بعيد، فيصل ميتاً. الطغاة متغلغلون فينا، في معتقداتنا، في عروقنا، في ثقافتنا وإعلامنا. يشجعون القتل، ولا ينفكون يندبون على جثثنا أو يلعنوها. فبماذا نفكر؟، ونحن نرى مثقفين ومسؤولين مصابين بالعور، ينظرون إلى الموت، ولا يرون الحياة. إنهم يفرضون علينا ماهيتنا قبل وجودنا!!. ضحاياهم نحن وضحايا كياناتهم المتحركة، كأننا كائنات ولدت في حظيرة. لكننا ربما لا نريد هذه الحرب، لأن المعنى هو الإنسان والإنسان فقط، لا وجود لمبدأ أو حرية أو وطن، بدون الإنسان، في البدء كان الإنسان، ومن قبل ومن بعد. لو فكر جيلنا بأن يتحرر حقاً، فإنه لن يعتمد على مبادئ هذا العالم القديم في (الشرق) قط، ولا على مثقفيه الكبار وطغاته، ولا على ماضيه ولا طوائفه ولا تاريخه. سوف ينبت الإنسان فينا ذات يوم، بعد أن تنقرض كل هذه الأشياء. دوماً يعود الوعي إلى دورته الأولى، في البدء، كان الإنسان، وسيعود، فيما بعد بعد هذا (الشرق).
روائي ومترجم من الأردن | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية