تطل علي صورهم من جدران الحارات الضيقة، ببذلاتهم المموهة، أسلحتهم، بأسمائهم وألقابهم، خطوط العمر أو زغب البلوغ، بالتصاميم المختلفة لأوراق نعواتهم وباختلاف أماكن العزاء. ينظرون في عيني وعيون المارين بابتسامة وكأنهم يقولون: – يا أيها العابرين في حارات طفولتنا.. استمتعوا بما تبقى لكم من رائحة الفجر في هذه المدينة..
*****
قالت: – مافي بيت بسوريا مو مجروح.. الناس ماشية بالشارع وصفنانة، عم تحاكي حالا.. خربت البلد..
أجبتها: – البني آدم هو يللي خرب..
التفت إلينا الصبي الجالس قرب السائق كاشفاً عن أسنانه البيضاء بابتسامة هوليوود التي كلفته 275 ألفاً:
– بس في شغلة إيجابية صارت بهل خمس سنين..
نظرنا إليه مستغربتين..
– ما ضل شي الواحد يحزن عليه.. وبدي أتطوع بعد راس السنة رغم أني وحيد…
– وليش ساويت سنانك طالما مقرر تتطوع؟
رمقني باستغراب ولم يفهم قصدي… وكأن الحياة ستستمر أبداً.. فالتزمت الصمت.
*****
يسألونني:
– كيف الوضع عندكون؟ في شي؟
فأجيب:
– ما بعرف.. إلا إذا نزل شي جنبي وقتا بعرف..
لذا.. لا أعرف إن كان ذلك الصوت الذي سمعناه في حوالي الثامنة والنصف مساء هو صوت الصاروخ الذي استهدف المبنى حيث كان سمير القنطار، أم أنه استهداف آخر لطرف آخر في زمن كل المعادلات فيه تحتمل الطرفين أو أكثر.
عرفت من نشرة الأخبار.. لم يتصل بي أحد ليطمئن علي أو يسألني: – شو صاير عندكون بجرمانا؟
ربما لأنهم يعرفون بأني “لا أعرف”.. ولو عرفت.. لما عدت قادرة على الإخبار به..
وسيعرفون بدورهم من الشريط الأحمر أسفل الشاشة في نشرة الأخبار تحت بند “ثلاثة من المدنيين” أو “عدد من المدنيين”.
وربما لأن الموت أصبح حدثاً عادياً ببساطة شراء ربطة خبز من فرن في شارع الأمين، وممتعاً كتناول الرغيف الساخن في الطريق إلى الباب الشرقي وأنت تضم الربطة إلى صدرك مستدفئاً بها في كانون.
منذ سنوات تابعنا خبر تحريره مع أسرى آخرين على قناة المنار.. كان هذا في الـ2008..
أي ليس بعيداً جداً كي نبرر للذاكرة سقوطها بالتقادم..
أما الآن فما أن تفتح صفحتك الزرقاء الافتراضية حتى يفيض منها كم من الشتائم والشماتة والأدعية الدينية بين قوسين.. ويزين علم إسرائيل صفحات سورية بنفس الفخر الذي تزينها الأعلام السوداء.
الكل عرف بأن المبنى تحول لبسكويت مهروس بمن فيه ما عداي، حتى سيارات الإسعاف لم أسمع صوتها. كنت اسمعها في زمن ما بات من الماضي.. أما الآن فقد تحايلت بما يسمى “تمرين فصل الحواس” حتى أنني أنسى أحياناً حالة الحرب والموت الاستثنائية التي تحيط بي، لا يذكرني بها سوى لون الرصاص الخطاط الأحمر فوق سماء الأموي ليلاً..
لا يهمني القنطار وما فعل.. أو بما كان يفكر أو يخطط.. ولست بصدد اطلاق حكم أخلاقي عليه.. فأنا أقيّم أصدقائي فقط.. وأحتفظ بالتقييم لنفسي..
ما يثير فضولي فقط مراقبة تحول مواقف الأشخاص..
نحن شعب سوري بارع بالتصفيق عند صعود الموجة والبصق عند هبوطها..
في فترة ليست ببعيدة “كانت” أغلبية سكان الدولة السورية من البعثيين.. جيل الانتهازيين صنيعة الحزب “القائد” الذي برع بإنتاجه أكثر من أي شيء آخر..
أما الآن فأنا أتسلى بالنظر إليهم وكيف يتفننون في البصق داخل الصحن “السوري” الذي أكلوا منه..
أمر ممتع بالفعل..
بالنسبة للقنطار وغيره.. من يلعب لعبة السياسة يخاوي الموت..
أفكر فقط بالآمنين في بيوتهم في تلك اللحظة.. ينتظرون عودة التيار الكهربائي ليغسلوا غسيلهم ويشغّلوا المدافئ الكهربائية بينما يوضبون البرنامج المدرسي لغد لم يأت في حقائب أطفالهم.
جرمانا 21/12/2015
مجلة قلم رصاص الثقافية