ستة عشر عاما انقضت على دخولنا الألفية الجديدة، ستة عشر عاما ونحن نعيشها فيزيولوجيا، حاضرين فيها رغم أنف الغرب والشرق، بقوة التراكم الانجازي الذي لن يشق له غبار بعد اليوم، فما أنجزناه نحن أبناء هذا “العالم العربي الرائع”، لم تكن لتحلم به، وديان السليكون، ولا مصانع الطائرات أو الشاحنات، التي تبيعنا منتجاتها مقابل دم قلوبنا، متذرعة بسببها الواهي الممل وهو سبقها المعرفي هذا السبب التافه غير الإنساني! الذي جعل منها مجتمعات وأمم تتشاوف على غيرها من دون سبب لائق يقنع العدالة الإنسانية المعطوبة عندهم، أو يخلص للديموقراطية ذات المكيالين المتداولة بين ظهرانيهم، نعم دخلنا الألفية الثالثة ونحن بكامل بهاء براءتنا وعفتنا وحيائنا و “وطنيتنا”، ولتذهب المعرفة (معرفتهم) إلى الجحيم طالما حافظنا على كل هذه القيم الخالدة، التي لا بد من يوم ستحتاجها البشرية جمعاء وسنقدمها لهم بالمجان، وعلى سبيل الصدقة كي يعودوا إلى فطرة الإنسان الحقيقي، ويتعلموا احترام “الحياة” الإنسانية.
نعم دخلنا الألفية الثالثة وفي جعبتنا ذكريات مجيدة من الألف الثانية، ذكريات لما نزل محتارين في تحديد مذاقها، وتوقع نتائج تناولها والإعراض عنها، ذكريات لما نزل نحتفي بمناسباتها ونخصص الصفحات والمطبوعات لإعادة قراءتها ونشر الوعي للاتعاظ والمناصحة، فها نحن نعيد قراءة سايكس بيكو، و وعد بلفور، ومعركة ميسلون، والنكبة والنكسة والعدوان الثلاثي، لنكتشف أنها ما هي إلا محطات خالدة للأمل الثوري بالتحرر من ربقة الاستعمار ومما يثبت بما لا يدع مكاناً للشك بمقدرتنا الفائقة على الصبر والصمود وقدرة الاحتمال والتمطط والتملص من سؤال التقدم والإنتاج والمنافسة، فهاهي ذريعتنا تحت إبطنا، إنهم لم يتركوننا نتقدم على طريقتنا، خوفاً منا أن نسبقهم فأجهضوا لنا كل محاولة للتقدم والارتقاء من عندياتنا، عبر تدميرهم لعتبات الشبع والمنعة التي كنا نقف عليها جاهزين للقفز فوق سنام المدنية والحضارة، لقد تم ردعنا وصفعنا ملايين المرات على حين غرة كي نرتدع ونغادر تلك المحاولات للعودة إلى أصالتنا ومن عليائها نطل على حقول مستقبلنا الخضراء.
في القرن الماضي …! لم نترك مسألة ثقافية أو معرفية إلا وأشبعناها درساً وتمحيصا وإعادة تربية وترويض، من رأي الكواكبي بالاستبداد حتى رأي أدونيس بالدولة، ومن العالمانية الزندوقية وحتى العولمة المتوحشة، وعندنا كامل القدرة والإرادة لنفتدي أصالتنا وهويتنا الجامعة بما لا يخطر على بال الجن الأزرق، من تقسيم التاريخ وإلغاء “الزائد” منه، وحتى الدفاع عن الإرهاب المؤدلج بذرائع لا تخلو من فكاهة.
نعم دخلنا الألفية من بوابة غزوة منهاتن، ولما نزل ننتظر رد هؤلاء الجبناء الذين لا يثأرون لكرامتهم!! وأتبعناها بغزوات لندن وباريس ومدريد، وكجبناء ردو علينا بالمؤامرات و بمنعنا الحصول على سلاح متطور نواجههم به، لا بل طوروا أدوارهم الخفية القذرة الجبانة بإستخدام سلاح الاتصالات الغدار، ناهيك عن السينما والتلفزيون ومنتجاتهما التي تخرب عقول شباب “الأمة”، وفي بعض الأحيان كانو يقصفوننا ببعض قنابلهم الذكية وهذه مقدور عليها بالرهان على أرحام نسائنا وفحولة رجالنا.
وعلى أية حال لم يمر مئة عام على أطروحة الفوضى الخلاقة وهمروجة الشرق الأوسط الكبير، حتى نحتفي بذكراهما (كالاحتفاء بوعد بلفور) مكتشفين خفاياهما وحقدهما بعد أن يزيحوا حاجز السرية عن وثائقهما!.
دخلنا الألفية وقطعنا ستةعشر عاما منها، وحادث المجتمع لم يحدث بعد منذ انفلاتنا من قبضة الرجل المريض، وهناك من يتحسر عليه لأنه وللمرة المليون معتقداً أنه كان يمكن أن يكون أقل سوءً من تحررنا السايكس بيكوي، ولكن الفالج يحبط المعالج، فالمسألة هي حدوث حادث المجتمع الذي يحتاج إلى بنية ثقافية حداثية لحصوله، بغض النظر عن وجود المستعمر من عدمه، ولكن من أين لنا لإمتلاك هذه البنية ناهيك عن تفعيلها؟ الدنيا ماشية وللشاطر فيها من الطيب نصيب، وما زلنا نبحش في التراث عن أنموذج إجتماعي واحد كي نمارسه ولكننا لم نعثر إلا على الحروب والمقاتل وها نحن نستعيدها ونجربها بكل شطارة و… نوايا طيبة !.
في الألفية الجديدة أتينا بما لم يأت به الأوائل، فلم نترك طائفية أو قبلية إلا واستعدناها رغما عن أنف الأستعمار وعالمانيته القذرة، ولم نترك تخلفا يعتب علينا إلا وأيدناه كرمى لعيون الأكثرية، ولم ندع لفساد عتباً علينا إلا ومارسناه بمهارة فائقة الطمأنينة، ولم نترك فنا أو إبداعا إلا وهشمناه، ولم نترك فرحا أوزينة أو موضة أو متعة إلا وثربناها وأدناها حتى في الأختلاف على نوع البوركيني المحتشم، ولم نتفادى فرزاً عمودياً أو أفقياً إلا وأجدنا بناءه، ولم يبق أي نوع من أنواع الهويات (إلا المجتمعية) إلا واستجدينا إنتمائه ونظرنا لصحة محتواه، وأخيراً لم يبق صمت في العالم إلا واستهلكناه مباشرة أو مداورة نفاقاً أو تملقاً أو طلباً للسلامة أو قنوطاً أو يأساً من ولادة مجتمع يشبه مجتمعات خلق الله الناجحة !!!.
الفناء والنهضة حدثان متقابلان متوازيان لا يلتقيا، وفناء شعب أوشعوب،لا يعني اندثارها فيزيائياً، بل انمحائها ثقافيا، حيث تفقد المقدرة على ممارسة السلوك الصحيح، ما يعني فناء مقدرتها على الإنتاج، والتعالي والتبجح الإكزوتيكي بالمظاهر الفلكلورية الخصوصية لا يعني أن هذه الشعوب في حال نهضة مهما تعالت أصوات الإعجاب بهذه المظاهر في جنبات العالم القرية، وإعتماد هذه المظاهر كتراث لا يعني أن هناك إضافة حيوية الى المنتوج العالمي من المعرفة، مهما كانت هذه الظاهرة أو تلك حقيقية توثيقياً، فالماضي هو الماضي، وزمن المجتمعات هو الغد وما بعده، والفناء والنهضة هما خياران إراديان، تقاس وتعاير هذه الإرادة بالمقدرة على الالتزام بالمعرفة، ومشكلة المعرفة الأولى أنها هادمة ظاهرياً لما سبقها، ولا تكتفي بالهدم وحده بل تستمر صعداً كما درجات السلم، ليبدو التمسك بالدرجات الأولى منه ضرب من الانتحار، وفقدان لأسس الارتقاء الذي يعني الإستمرار الذي يقاس بالإنتاج فقط، لتبدو ثنائية الفناء النهضة لدينا بلا أية أهمية تذكر فالإستراتيجيات هي أهداف مستقبلية، والمستقبل غيب، والرجم به هو من الكبائر وقانا الله اقترافها.
فرص حدوث المجتمع ليست فرصاً مرمية على قارعة الطريق، فتأسيس مجتمع عملية مضنية تحتاج إلى التخفف من أثقال السائد والمعروف حتى لو كان ثميناً وغالياً، واستبدالها بحمولات معرفية جديدة تستطيع تسديد قيمة الوجود، وقيم عليا مثل الحق والخير والجمال، لا يمكن شراؤها بعملات قديمة أو مزيفة، إنها مضامين تأسيسية للعيش البشري تحتاج إلى الكثير من الصواب لمقاربتها. تحتاج إلى نهضة…أو فناء…… فهل نحن بخير كل عام؟
مجلة قلم رصاص الثقافية