عامر العبود |
كنت أقف مذهولاً عندما ينظر الكبار إلى الشاشة، ويقولن (هاد الله يرحمه)، (وهاد أيضاً مات)، عندها لم أكن أفهم كيف مات وما زالت صورته لامعة، وصوته متدفق عبر الزجاج المحدب، وتدريجياً توصلتُ إلى الفرق بين موتين، موت الناس، وموت من يحبهم الناس، فهناك من لا تموت ذكراهم، ويكون الموت أقل قدرة من أن يمسح آثارهم، لهم الرحمة.
برحيل فنان الشعب رفيق سبيعي، تفتح هذه الذاكرة أبوابها على الراحلين الكثر، خاصة الذين رحلوا في سنوات الحرب، ياسين بقوش الذي اقتادته المعارضة وقتلته، حسن دكاك الذي قيل أنه أصيب برصاصة في مظاهرة، أو جلطة، وخالد تاجا الذي ترفع أولاد الكار عن الخروج في جنازته، ونضال سيجري قتيل الحزن والمرض، وعمر حجو الذي مات وفي نفسه شيء من حلب، وغيرهم، لكن شيئاً ما يدعو للبكاء أكثر من الموت نفسه، شيء ما يدمي القلب أكثر من الرحيل، أنَّ فنان الشعب مات والحرب ما تزال تحيا، وتقضم أفئدة الأمة، برويةٍ، وتشفي، مات الرجل الذي دخلت الحرب بيته، وأصبح فيه مؤيد، ومعارض، ومحايد، فسبقه ابنه الراحل عامر سبيعي إلى الموت، والذي كان معارضاً شديد البأس، قدم سلسلة من الأغاني الشعبية على طريقة أبيه، لكن على نهج (الثورة).
الأب ينادي “عنبك يا شام دوالي”، والابن ينادي “كل عضة بغصة يا سفرجل”، وها قد رحلا، ورحل العنب، والسفرجل، حتى الماء فارقت دمشق!، إلا الملعونة الحرب، ما زالت ممسكة بثوب الشام المبلل دماً، كان سبيعي الأب (طوطح) يتغزَّل بمكدوس الشام، ويرفض الخروج منها، ويراها من زاوية الحنين، وابنه ينادي “يا غوطة الشام اشعلي”، ويراها من زاوية الغضب، شقاق اتسع مع كل قطرة دم، ولم تكن تلك أزمة عائلية، بل أزمة وطن، ولم يكن انقسامهم على ميراث، بل كان انقسامهم انقسام شعبٍ كامل!، يقتل الناس فيه بعضهم بلا رحمة، وتغرق البلاد في بحر من الاتهامات، والانتماءات المتعفنة.
كم هم أصحاب حظٍ أولئك الذين رحلوا قبل ولادة الحرب، كم كانوا سعداء بموتهم العادي، دون أنْ تحدد مواقفهم ثمناً لأرواحهم، ودون أن تحدد مكان دفنهم، بعيداً عن قوائم العار، وقوائم الشرف، كم كان محظوظاً أول من مات في هذه الحرب، دون أن يشتهي الموت، كم هم محظوظون من لم تبُل الإبل فوق الخبز والملح الذي جمعهم، وطوبى للذين يذكرون محاسن الموتى، وطوبى للذي يذكر ابتساماً وينسى عبوساً، طوبى للذي يفسح المجال للأرواح أن تصعد إلى سمائها دون أن يحشرها في أزقة الدم.
رحلت تلك البحرة التي وقف عندها أبو صياح وغنَّى “بالي معاك”، رحلت دون أن يراها أحد، كل ما يشغل الجمهور، أنَّ عائلة سبيعي انقسمت، وأن الابن مات في مصر، والأب مات في الشام، وأيهم أكثر خيانة، وأشد وفاء، كل هذا الدم لم يستطع أن ينتزع الشماتة من قلوب الناس، ولم يستطع أن يغير ما فيهم من الإقصاء، والتحزب، في لحظة تغيب عن ناظرنا قطعة من التراث الفني، إلى غير رجعة، في لحظة لا يكون الموت فيها موت شخص، بقدر ما هو موتٌ لمرحلة.
التقيت بأصغر أبناء عمر حجو مرةً واحدة، قال لي: (والدي مرضه حلب)، وها قد رحل والده وما يزال المرض قائماً… كلنا مرضنا المدن، والأماكن، والذكرى، وكلنا ستقتلنا، أو قتلتنا هذه الحرب، فالرحمة للشام، وللبحرة، وللعنب والسفرجل، والرحمة لأرواح الذين راحوا حزانى، يسكنهم شوق، ولوعة.
كاتب سوري ـ الخرطوم | خاص موقع قلم رصاص