فراس الموسى |
اغفروا لي إذا خرجتُ عليكم مرّةً أخرى بوجهٍ يعشّش فيه كل شحوب الخريف، وبعينين تحتشد فيهما كلّ أمطار الدنيا، واعذروني إذا حملتُ إلى مزهريّاتكم أزهاراً أوراقها دموع، وعطرها دموعٌ أيضاً، فمنذ أعوامٍ مريرات وبساتين هذا الوطن الممتدّ من الجرح إلى الجرح، ومن الآه إلى الآه لا تحبل سوى بأزهار الأحزان.
ماذا أقول؟ والوطن غارقٌ في دمائه حتّى شحمة أذنيه، والوطن ما زال يحمل صليبه الكبير الكبير جارّاً خطاه في درب خلاصه الطويل الطويل.. ماذا أقول؟ والحال مُرّةٌ جدّاً، ونحن لا نأكل، ولا نشرب سوى ملحٍ، وقمعٍ، وقهرٍ، وحقدٍ أسود. كسروا عظامنا مرّاتٍ ومرّات، لكنهم عجزوا عن كسر عزّة نفوسنا، ورجمونا بحجارة أحقادهم حتّى الموت، ونحن لم نرتكب ذنباً سوى أنّنا رفعنا رؤوسنا، وصرخنا صرخة مقهورٍ لم يزل السكين ينام في لحمه منذ أن كان يسبح في بطن أمّه، ولكنّنا رغم كل ما فعلوه انبعثنا بعد موتنا من جديد.
يباسٌ على مدّ بصري، ولا شيء سوى عباءةٍ ثقيلةٍ من الرّماد تغطّي عورة هذا الوطن المقهور المعذَّب، وإذا كان حال الوطن مفجعاً إلى حدّ الذبح، فإنّ حال مثقفيه وكتّابه وفنّانيه ليس بأفضل، فكثيرٌ من الفنانين والمثقّفين سجّلوا موقفاً من كلِّ ما جرى ويجري، ومالوا إلى الجانب الذي يُسعد قلوبهم، ويُرضي أهواءهم وطموحاتهم، وبصرف النظر عن موقف عددٍ منهم وكم كان مخجلاً، فإنني هنا لست بوارد أن أحمل على أحد، أو أن أرفع كرباج الكلمات على أحد، فالكلمة عندي سجّادة صلاةٍ ودعوة محبّة، وليست أبداً مقصلةً، ولا مشنقة، غير أنّني أظلّ مألوماً جدّاً على هؤلاء الكتّاب، لأنّ هواء الحريّة النظيف يؤذي رئاتهم، ولأنّ الاغتسال بمياه الانعتاق والخلاص لا يناسب طبيعة أجسادهم وعقولهم المروَّضة المستسلمة.
لكنّني أكاد أطلع من ثيابي، ويحدث أن يلتهمني الجنون والغضب من مثقّفين وكتّابٍ آخرين اختاروا اللا موقف، فأغلقوا أبواب بيوتهم على أنفسهم، واعتزلوا الناس، وصمّوا آذانهم عن كل ما يحدث، وكأنّهم يعيشون على جزيرةٍ مهجورة رغم أنّ رائحة البارود والدخان تملأ أنوفنا جميعاً، وكأنّ هذا الحريق الكبير الذي لم يسلم منه طابقٌ، أو غرفةٌ واحدةٌ من غرف الوطن لا يعنيهم أبداً، ولا تربطهم أيّة صلةٍ مع كل هؤلاء الغارقين في شقائهم.. المغلوبين على أمرهم.. اللائبين على امتداد هذه الخريطة المرقّعة.
إنّ من مفجعات هذا الزمن أن يستنفر العالم كلّه من محيطه إلى محيطه، وينشغل الناس كلّهم حتّى الإنسان الذي يعيش في قطبيّ العالم المتجمّدين بهذه المحرقة الكبرى، ويظلّ هؤلاء الثلّة يعيشون خارج الإطار الناري الذي يحاصرنا من كل جانب، مبتلعين ألسنتهم، يأكلهم الجبن والتردّد من تسجيل موقفٍ ما.
أليس من المبكي أن يسترخي هؤلاء في شققهم الفخمة المكيّفة الهواء، والمفروشة بالسجّاد الوثير يتفرّجون على حفلة الرجم، وكأنّهم يتابعون فيلماً هوليووديّاً، وأسياخ الجمر ما زالت تزرع في أوصال وطنهم، وما زالت تكوي جلود أبنائه.
لقد فضّل هؤلاء المزيّفون اللا اختيار، وأرادوا أن يكونوا محايدين، وهذا شيء لا يقل دمويّةً ووحشيّةً عن كلِّ ما يجري، وببساطةٍ أقول: إنّ الإنسان الرمادي الأبكم كجدارٍ من جليد.. لا يرتعش لشيءٍ، ولا ينتفض لشيءٍ.. لا يسخن، ولا يبرد.. لا يريد جنّةً، ولا يريد ناراً، وبكلمةٍ أدق لا يريد أن يكون ذكراً، ولا يريد أن يكون أنثى ليس سوى غيمةٍ معلّقةٍ لا تقي من قيظ، ولا تحبل بماءٍ فتمطر.
في زمن انفجار الأعصاب يتمدّد الوطن على منضدة التشريح مطحون العظام، ويظلّ عصبة من الكتّاب حريصين على بذلاتهم، وربطات عنقهم، وأحذيتهم اللمّاعة من ذرّة غبارٍ يمكن أن تلخبط أناقتهم، أو تخمش زجاج بشرتهم المليسة، وتُدرز آفاق الوطن بالرصاص والمجنزرات والمسامير والخوازيق، ويبقى هؤلاء متغافلين عن صراخ كلّ طفلٍ لم يزل يتوسّد الصقيع معانقاً أحزانه الولود كقطارٍ ليس له آخِر.
خاص موقع قلم رصاص