مع بداية السنة السادسة للحرب نجلس في ساروجا في مطعم صغير صفّ طاولاته في الشارع، خلفنا وعلى السيراميك المغطي لجزء من الجدار صورة مطبوعة داخل العلم السوري كتب أعلاها “حاربوك ونسيوا مين أبوك”.
في يوم صيفي ما التقطت لي أفين صورة قرب هذا الجدار المسرمك، وأنا ابتسم ابتسامة عريضة بمعنى:
– لساتنا بالشام.. وعايشين… كرد على القذائف التي سقطت في المنطقة ذاتها في يوم سابق قتلت خمسة أشخاص.
حتى الآن لا أعرف ما الذي يربطني بهذا البلد الذي وصفته لصديقة بعيدة في بوح عن أحوال البلاد والعباد:
– بلد شرموط.. بس يحرق دينه شو حلو وشو قريب… متل إدمان دخان من أخرا نوع… أو مشروب رخيص”.
هكذا أراه.. لا أطيق الابتعاد عنه.. فيه شيء كمغناطيس يجذبني من الأقاصي لأعد ساعات وصولي إليه.
أفكر أحياناً … ربما نحن السوريون لا نستحق سوريا.. أنانيون.. لا نفكر إلا بذواتنا حتى ولو كنا على متن “بلم” سيء النفخ وسط البحر، كلٌ يريد ما يريد هو، ولو على حساب الآخر.. حتى لو أدت هذه الرغبة لانقلاب البلم.. المهم أن يدوس على أخيه السوري الراكب معه في نفس الرحلة ليصل أولاً إلى بر الأمان وينجو بحياته وحده..
لا مانع أن يقتنص البحر حياة السوري الآخر، المهم أناه.
*****
محمد يلف صندويشة صغيرة لطفلين التصقا بطاولتنا.. واحد في حوالي السادسة وآخر في الثالثة.. لم يتعلم بعد لفظ الأحرف سليمة..
أخجل من النظر في أعينهم السوداء، أشد سواداً من اتساخ وجهيهما وأيديهما.. تعلق اللقمة في حلقي أبلعها بالكاد.. بم كان يفكر والداهما حين عرّفاهما على هذه الدنيا ليفلتاهما في الطرقات.. أحقاً صدقا ذاك الذي قال أن رزقة الطفل تأتي معه؟
أخذ الأكبر صندويشته وناولها للصغير أولاً ريثما يكمل محمد لف الصندويشة الثانية… ثم انصرفا..
التصقت بنا امرأة تبيع العلكة مع طفلتها المشعثة الشعر، اعطيتها ورقة نقدية دون أن آخذ شيئاً، وبفاصل دقائق قليلة مرت امرأة عجوز وطلبت الصدقة ايضاً..
توقفت امرأة في الخمسينات ظننتها ستطلب المال أيضاً لكنها طلبت أن تشرب، مد لها محمد كأس الماء، شربته بأكمله وشكرتنا، ولم تنسى أن تخطف محرمة من العلبة الموضوعة على الطاولة وهي تنصرف.
كم أصبح المتسولون كثر في دمشق…
*****
في سوق الحرامية تكثر بسطات تبيع أشياء لا أعرف من يشتريها، أشبه بأكوام نفايات يتزاحم عندها الناس وهم يدوسون على الخضروات العفنة التي لفظها سوق الخضار القريب، وفي العمق ثماني قناطر حجرية جميلة متصلة ببعضها هي كل ما بقي من منزل عربي متهاوي مطل على شارع العقيبة الموازي. أفكر بالمهندس الذي خطر له أن يقطع ساروجة لنصفين بشارع يسمونه “ثورة”، بالنسبة لي هذه الـ “ثورة” جريمة توازي بحجمها أكبر جريمة حرب، مجرم أيضاً ذاك من امتدت يده لقص الشجرة الالفية ولصب الإسمنت في الفيجة التي كانت تروي السوق.
سألت بائعاً عن سعر حذاء فضرب لي رقماً فلكياً لا يليق بسمعة المكان فاستدرت عنه دون لطف.
انظر إلى ساعة محمد التي توقفت عقاربها على زمن مَرّ… يختلط الوقت عليّ ونحن ندلف من باب الفرج إلى الحارات المؤدية للمسكية والأموي الذي ما يزال يحتفظ أحد جدرانه المواجه لمدخل البزورية بنحت نافر مشوه الوجه لإله روماني، يقول بعضهم أنه المسيح.
*****
التفجيرات الانتحارية والعبوات الناسفة لا تستطيع أن تُسكت ضجيج الحياة وزحمة الناس في دمشق.. لا أحد مهتم بمباحثات جنيف 3.. أو يبني التوقعات، سوى قلة على الفيسبووك..
حياتنا مؤلمة بقدر الجوع.. نُسكته بأكل الملح..
سوريون نحن ودمشق مدينة تطعم الجوعان.. ولو لحين..
وتروي العطشان من نهرها الجاف العفن ومن مياه السبل المتوزعة في حاراتها، الجافة خلال ساعات تقنين المياه..
مدينة على حد فاصل من الحب والكراهية وإدمان المر الحلو..
هنا دمشق…
31/1/2016
موقع قلم رصاص الثقافي
مقال أكثر من رائع