أما بعد… فأنا لا أقتني حساباً على فيس بوك أو غيره من وسائل التواصل “الاجتماعي” اللهم إلا حساباً يتيماً على “الواتس آب”، يساعد على التوفير وليس على إمتطاء منبراً أرمي من فوقه خلاصة “حكمتي” الأزلية على رؤوس البشر، وهذا كله لا يعني أنني غير مطلع على هذه الوسائل متعرفاً متسائلاً ومراقباً في بعض الأحيان، ولا أعتبر ما سأقوله في هذه العجالة هو خلاصة معرفية لا يأتيها الباطل من مكان لأنها مجرد ملاحظات، ولأن النتائج التي ظهرت من إستخدام هذه الوسائل تظهر رداءة حضورنا المعرفي، وكذلك هشاشة ثقافتنا، وشساعة كبتنا وخوفنا من حقائق هذا الكون، ما يجلب شقاءً إضافيا هائلاً على موجودات متنوعة نتداولاها من هذا الشقاء وأسبابه.
لا أعرف بالضبط كم من الأعوام مر على بداية استخدامنا نحن هذه الوسائل، وتحديداً الفيسبوك، كما أنني لا أعرف عدد مستخدميه، ولكنني أعرف أن الأكثرية الساحقة من مستخدميه تحولوا بين ليلة وضحاها الى أساتذة كبار لا يشق لهم غبار في التنظير والتأكيد وإعطاء الخلاصات النهائية المفيدة، حيث يمكن من تأمل هذه الملاحظة اكتشاف كمية الكبت التعبيري التي تسكننا – وهي هائلة بلا شك – ولا تتوقف عند التعبير العام السياسي “الانتخابي” أو الاجتماعي، الخدمي، بل تتأسس على المكبوت الشخصي الأسري القبائلي الديني والتقاليدي، وعليه فإن فصاماً معلناً ومعمماً عبر هذه الوسائط يأخذ مكانه في معايرة قيمة ووظيفة هذه الحشود البشرية التي تتآخى مع الشاشات ولوحات المفاتيح، ولا أقول هذا على سبيل تخطيىء استعمال وسائل التواصل هذه، أبداً، فهذا واجب من واجبات العائشين في العصر، ولكن الملاحظة تذهب إلى الإشارة إلى تلك الهشاشة الثقافية وذلك التخلف المعدي ليتحول معها إدلاء الرأي إلى محاولة تبشير ملزمة، وهنا يبدأ تحقير الجهد المعرفي بأشكاله وأنماطه، ليتحول في أحسن حالاته إلى تفسير القناعات المتداولة وضرورة اقتنائها حيث تتفشى روائح المصادرة.
ليس مصادرة الفضاء العام إلا نتيجة للاعتياد على مصادرة الفضاء الخاص وعقابيله المزمنة، وفعل المصادرة هو فعل عنفي بالضرورة، ومحاولة التملص من عنفها تبدو سهلة ومضمونة العواقب إلى “حد ما!” في هكذا سكانيات مدنية أو ريفية، حيث تظهر معها محاولات التأسيس للحق في المكانة، والمتعة، وتلبية الشهوات، و الاعتراف بالغرائز مهما كانت مطمورة، وهنا لا يمكن لأحد أن يضمن عدم خدش الحياء العام أو الخاص، على شتى صعد مظاهر العيش الجماعي، ولعل تسويق الممنوعات (على كافة أنواعها) على متن هذه الشبكة واحد من الإشارات التي تظهر عجز المصادرة (العامة والخاصة) مع كامل عنفها عن ردع أشكال اختراق حدودها، فإذا أضفنا اليها المسموحات الرجيمة كالاستقطابات المرعبة للأفكار والمعتقدات والسياسات، نكون قد عدنا إلى المربع الأول أي ما قبل التقدم الاتصالي هذا، وهو في حالتنا هذه الفسططة أو تقسيم العالم الى قسمين وظيفة كل واحد منهما إلغاء الآخر على الرغم من اشتراكهما واتفاقهما على تكنولوجيات العصر ومنها الشبكات الاتصالية، وبهذا تعود المصادرة إلى فعلها الأساسي أي التعانف ولكن بحيوية أكبر.
اليوم لا يستطيع أحد الادعاء بالاحتشام الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو الشخصي، فكل من على الشبكة يستطيع أن يلبي رغباته إفتراضياً، وبغض النظر عن أي تقييم أو حكم، وبغض النظر عن أية ثقة بالتربية، أو بالنوايا أو المظاهر، فهذه الوسائط تميط النقاب عن التركيبة النفسية/الجسدية للمشاركين، بالإضافة إلى قدرتها على اختراق الجدران والمسافات وحتى الثياب، وكل من على الشبكة هو عرضة للانكشاف أو المحاسبة على منابر هذا المجتمع الافتراضي وفي أروقته، كما هو معرض لانكشاف خصوصياته في أية لحظة عشوائية، وهو ما يرسم طريقاً إجبارية للتقدم أو الفناء، بمعنى أنه آن الآوان للتخلي عن قيم الماضي البائدة، واختيار قيم المستقبل، بغض النظر عن القيم التقاليدية الرثة التي فشلت في إقامة مجتمعات، فالدم الجاري في شوارع بلداننا لا تضاهيه قيمة كل احتشامات الكون ولا مصادرها، إنها دماء جرائم شرف توسعت وتم تعميم مشروعيتها عبر الإنترنت، ما يضعنا وبشكل إسعافي أمام المفترق الصعب، خصوصا مع وضوح النتائج، فإلى أي جانبيك تميل أيها “العربي” المقدام؟.
التعبير بالكتابة العمومية أو الصورة الحية، هو تعبير خطير لدى الشعوب الشفاهية، إنه في مرتبة أعلى وأقدس من الشفاهية التفسيرية، ما يعني أن تأثيره أعمق بغض النظر عن الموضوع الذي تتم فيه الكتابة، فالانتقال من الشفاهية المحدودة التأثير إلى الكتابية هو نقلة نوعية مبهرة للتداول الثقافي، (ربما كانت وراء سر هذا التأثير القوي)، فالكتابة لدى هكذا ثقافات هي مرتبة علمية بشكل أو بآخر والتعبير بها هو إنجاز بحد ذاته، فإذا أضفنا الحروف المطبوعة (أي ليس بخط اليد) نصبح هنا وكأننا قاربنا التأليف، الذي يمتلك هيبة ما، وهو من مغريات الاندفاع نحو التعبير بعلم ومعرفة أو من دونهما، بما يعني احتمالية الاندياح في تيارات الاستقطاب بما يشبه تعبيرات التأييد والتشجيع لنوادي كرة القدم، التي لا يدري المرء لماذا يؤيدها ويكن العجداء لغيرها كتشبيه بسيط للمستوى التفاعلي الثقافي، و وربما أيضا كانت سبب في التاهفت على استجداء اللايكات والمعجبين إلخ، والنتيجة هو هذا السعار لممارسة الكتابة على الجدران الإفتراضية.
في جانب منفرد وسعاري أيضاً تبدو الكتابة الإفتراضية “التواصلية” تمتلك جانباً تبشيرياً، تعطي الكاتب مهمة رسولية، في إصلاح شأن الآخرين (هدايتهم) وإرشادهم ليس إلى الحقيقة المطلقة فقط بل إلى أخطائهم “القاتلة” وذلك داخل حلقة لما تزل تتوسع من المعلومات المدرسية الشعاراتية، حيث تبدو هذه المعلومات هي ضد وسيلة النشر ذاتها عند الدفاع عنها أو الدفاع عن التمسك بها، وهو ما أدى في الغالب، إلى انعكاس مجرى سريان هذه المعلومات حيث بدت المعلومات المتخلفة والآتية من مستويات ثقافية متخلفة قادرة على الحلول مطرح المعلومات المتقدمة المتصالحة مع عصرها أو مع وسيلة النشر على الأقل، (لا بل والانتصار عليها بسهولة)، وهو هو ما يشير إلى النوعية المتهافتة لمتداولي هذه المعلومات، وكميتهم الكبيرة التي ترجح كفة القول بحق الإنسان بالتخلف طالما اختار ذلك من جهة، وكان أكثرية من جهة أخرى، ليتم تكريس “ديموقراطية” جهولة ترتكز وتعتمد على ارتجالات التداول الثقافي.
من المستحيل الاعتراض على مجريات التواصل الاجتماعي، كما من المستحيل رفضه، فهو قدر من أقدار البشرية (إذا شئنا التعبير التراثي) ولكن الواضح هو تلك الكمية من الخراب التي يخلفها ذلك “التواصل” بسبب المعلومات المتخلفة التي يتداولها وما ينتج عنها من فرز عصابي وعنصري أفقي وعمودي، حيث تتحول كل تكنولوجيا مستجدة بين أيدي المتخلفين إلى باطل يراد به باطل، ومن هنا يمكننا تقدير كميات المعلومات المتداولة المتسببة بالإرهاب على شتى أنواعه وأنواع المشاركة به، مما يتطلب إعادة النظر بالثقافة الاجتماعية برمتها، وهذا أمر من المستحيلات، فثقافة التخلف راسخة كقدر أيضاً وليس لها من مصير إلا ابتلاع ذاتها والتسمم بها.
مجلة قلم رصاص الثقافية