مقدمة:
طلع “الراي” موسيقى وأغنية جريحين من عمق ثقافة جزائرية لطالما ركنته في عمق هامشها التراثي الشعري والمغنى، وكأنه المستغنى عنه، فلا يريدونه أن يسطع؟.
“الراي” منذ البدايات قال فاجعاً بمكاشفاته وكلامه الجريء، فاجعاً بحجم مأساة ما يعلى من عذابات، فطلع أغنية متذبذبة بقصائد شعر ملحون حفظه البسطاء، ولطالما ظل هو الآخر شعرا شعبيا تُلقيه شفاهيات المهمشين وحزانى ومهووسين في بادية الغرب الجزائري.
طلع بقصائد فحول شعرائه الشعبيين شعراً رائعاً، وفي حضن الغرب المتمرد ذاته، بغضبه وثوراته، والعاطفي بروحه وشعرائه، والجريء بمكاشفات المحظور، لعل المرأة أولى تلك المكاشفات، ليمضي بعدها ممتطياً لحن موسيقي مذهلة ترفع القافية والحزن، ومضى بما عرف به أغنية رايوية مثقلة بالشجن والقصيد الغاضب، وبمفرداته الدارجة من لغة عربية لا تنطق جيداً بين شفاه رواده، وأضحت حداثية النطق الرايوي المستجلبة من عذابات الآخر.
طلع من البادية إلى سموات سقف موسيقى العالم، أين أضحى مبهراً كما بداياته، جالبا للانتباه بآهات “شيخاته” الأوائل وشيوخه التابعين وشبابه الحزانى المتربصين بالجرأة والأغنية هادمين طابوهات لطالما أثقلت كواهل أيامهم، إلى أن أضحت أغنيتهم نموذجا للجرح المعلن وإنسانيته، فلا أحد يطيق إبقاءه شجنا للظل، هذا “الراي” الجزائري المقاوم.
ثامناً : مجاديف رايوية
لقد قلبت مجاديف أغنيةʺ الرايʺ الجريحة مند البداية سكون لطالما خيم طويلا في مسقطه، ولأنه أغنية لم يعد التحكم فيه مطالاً كثيراً فلقد كشفت مجاديفه المتلاطمة سوءات ثقافية وسلوكية وتاريخية والأهم تلك السوءات التي حاربها الحزب الواحد؟
لقد كانت مكاشفاته الجريئة مشكلته الكبرى فيما تلا برزه وما أداه ربرتواره الغنائي الشعري الملحون المطعم بمقاطع وكأنها الحكمة الجاهلية في وصف الأوضاع أو ضبط سلوك أو إلقاء لوم اجتماعي ذاتي من عذابات الناس ؟
كانت مكاشفات جريئة لم يتخلص منها سوى في الأعوام الأخيرة مند أواخر الثمانينات وما تلا غير نوعا رايويا ما يزال بين الحين والأخير يرفع عقيرته بتلك المشكلة الأولى التي جعلت منه ما جعلت؟ لعل ʺعز الدين الشلفي ʺ نموذجاً لذلكʺ الراي ʺالآخر ولتلك الأغنية الحزينة المجروحة بأحزان الذات وعذابات الوسط، أنه بقي من يمارس في تلك المكاشفات الرايوية بالأغنية والشعر الملحون إلى ما بعد ولعل ʺعز الدين الشلفي ʺ فظل نموذجاً لاستمرارية متذبدة بمكاشفاتها الذاتية وإسقاطاتها المتعددة وقد بقيت تخيف تحت محاذير قانونية أغنية رايوية يخافها بصاصون هنا وهناك.
لأن ʺالراي ʺ منذ زمن وكأنه أغنية لروي قصص العشاق وحكايات المراهقين، فقد دجن وانتهى الأمر؟ دجن بعد عقود من التمرد والعصيان هاهو يركب التنازل في بعض تجليه. فلم يعد ذاته ذلك ʺالرايʺ الذي رفع في بادية الساحل الوهراني، في أدائه الأيكوستكي الذي ترى تفاعل الفرقة محض العين في وقت على نص واحد في أداء مباشرة يخترق الأسوار والسكون فلا ترتيبات سوى الجرأة والغضب، أغنية تقول شعرها الملحون من هواجس شاعرية و بلسان فنان مرهف يعذبه الحزن و تقتله الظلال المزيفة وغيلان كثر.
دجن في تعليب موسيقى عصرية وأرغم على ترك الايكوستية وبالتالي ترك وصايا شيوخه وشياخته التي أشعلت البدايات بقصائد وأشعار عن المقلق والمتسائل؟ فلم يعد هو ʺالرايʺ المتسائل على الأقل على عذابات الذات ومآلات الوحدة والظلم و ʺالحقرة ʺ ودموع اليتامى والمعدمين والفقراء.
لقد قلبت مجاديف ʺالرايʺ سكوناً لطالما خيم إلى أن أضحي مشكلته الكبرى للعقود تمثلة في عدم تناسقه مع معطيات عامة رسمية من ثقافي و اجتماعي و أخلاقي، ومع قوى أعلت الهوية كثيراً ورأت فيه مدمراً شريراً لتلك الهوية.
ومشكلته منذ البداية على ما يبدو فلم يفهم والرايوين أنفسهم في غداة إبهارهم الأول وبما أحدثوه مند أواخر الستينيات من شهية القول وجرأة التطرق لقضايا بمحاذير عامة ثقافوسياسية، مشكلته كانت أسئلته الضمنية وهواجسه الرئيسية عن الهوية والعدالة الاجتماعية والحزن العظيم. تلك المعطيات من الأسئلة المثيرة للأجوبة والتي يخافها بصاصون هنا وهناك، لقد كانت الهوية وما تزال وكأنها ثلج سيذوب سريعاً تحت لهيب الشمس الحارقة.
لأن ʺ الرايʺ أصلاً لا يلي هذه الانشغالات بالاً فالرايوين كانوا محددي الثقافة، ثم من كونه موسيقى شبابية عصرية وأغنية اكتسحت الفضاءات كلها، كان الرايوين لا يهمهم سوى عوالمهم الخاصة ونقطة للسطر. كان هذا في الأغلب وحين تضيق الصورة يتضح حجم الكم الهائل الذي كان يحمله ʺالرايʺ من تلك الأسئلة التي تخيف القائم ، بل أن نوعاً من الأغنية الرايوية بات مندثراً وكان همه الأساسي هده الأسئلة.
لكن عدم مبالاة الرايوين بهذه الأسئلة التي تستجلب لهم شهرة والمتابعين وعشاق ومحبين. فما كان يقوله ذلك ʺالراي ʺ كان صادماً في لغته وأسئلته ولطالما أثقلت بصاصين برمزيته كما السهام المشتعلة بأسئلة والذاتيات والمظالم والحزن الذي لا يريد أن يرحل كانت تلك القصائد والأغاني الرايوية بخامات صوتية جريحة أيضاً.
قد يقال مبالغة في توصيف لهكذا مكنونات هده الأغنية التي نصر على تسميتها لأنها في كامل مسارها مرس عليه الجرح بتجليات عدة. لكنا الحقيقة سواء فهمت رسائل نصوص ʺالرايʺ، أو لم تفهم؟ فلم يكن فقط ثورة على الأنماط الاجتماعية وقصيدة لحنية لتغنى بأسرار النساء وعوالم المهوسين، وليست منصة للاشتباه بالبرجوازيين والدين سرقوا، أو نهبوا، أو ظلموا، في الحقيقة كانت أغنية ʺالرايʺ من كل عين دمعة. وكانت صوتاً عالياً على هوية لم تقوى كما يجب.
والرايوين الشيوخ أو شبابه قد لا يكونون منخرطين تماماً في تلك الهالة من الأسئلة عن الهوية، لكن ما كانوا يقولونه كان شعرا فلسفيا كثيرا ما حمل مواجع الأيام والماضي والمستقبل ولعله أشرس الأسئلة التي حملتها الأغنية الرايوية كانت عن اللامساواة تحت السماء الواحدة، وعن تميزا ترمقه القافية الشعبية فتكتبه لتطلقها حناجر الرايوين بغضب و انتقام ، وعن الدين يعيشون الرفاهية فيما الأغلبية تحت خط البكاء . عن المقتدرين عن الدين يفتقدون بمفاهيم ʺ الرايʺ المأخوذة من الشعبيات والشفاهيات وشعراءهما، كان العالم الخارجي أمامʺ الراي ʺ يفتقد إلى ʺالرجلة ʺ تلك المفردة الدارجة المشتقة من الرجولة بظلالها الأخلاقية والمواقفية وشيم الوفاء وستر الفضائح والكرم وحب الآخرين والتواضع !؟ كانت جملة الأشياء التي قد يجف لها الحبر لكنها مركزة فى التناول ومفهومة في الإلقاء الرايوي ولعلها قد تكون تركيزا عن الهوية بمعنى التمسك بما هو أفضل، وبما هو متوارث أبا عن جد عن كابر.
موقع قلم رصاص الثقافي