الرئيسية » رصاص خشن » السوريون… حمَّى المناصب والتشريفات والاعتزاز

السوريون… حمَّى المناصب والتشريفات والاعتزاز

عامر العبود   |

آهٍ على تلك الأيام، حين كنَّا نمشي في الشآمِ بلا زحفٍ، ودون أن نقلد أيَّ نوعٍ مِنْ أنواعِ الحيوانات، في الركضِ، والعدوِ، والاختباءِ مِنْ المُفترساتِ، كانت البلاد ما تزال صالحةً للافتخار والاعتزاز، على الرغم من آلاف المصائب التي تنام معنا، تحت المخدّات، وفوق الرفوف، كنَّا نتعلق بوطنٍ لا نعرفه، وننتمي إلى بلادٍ لا نشبهها، ولا تشبهنا، عندها اتفقنا ألَّا ننكسر عند منعطفٍ من منعطفات هذه الحياة اللينة، اللدنة، اتفقنا ألا ننكسر، وكنَّا نكذب كما نشرب!.

لم نكن نستغرب اسم مطعم الباشا، ولا مقالي الزعيم، ولا مشاوي العكيد، كنَّا نمرُّ بجانب حلويات الملك، دون أن نلاحظ النرجسية في الاسم، ونشتري الجوارب من القيصر دون أن نتبين مصدر هذا اللقب الكبير…

وفجأةً انفجر انتماؤنا الكاذب، وتطايرت شظاياه من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، وانكسرنا دفعةً واحدة، بلا اعتزازٍ، بلا افتخار، وجدنا أنفسنا نتراكض إلى المنافي، ونسبق بعضنا إلى امتشاق السيوف، وحزِّ الرقاب، فانكسر كلُّ ما كنَّا نقول أنّه لا ينكسر، وبقيت لنا حمَّى التشريفات، والألقاب الرنانة، والمناصب الخلبيَّة، تخلينا عن كلِ شيء، إلَّا عن الألقاب!، إلا عن الشعارات، والياسمين المقحم في أنوفنا عنوةًّ!، ها نحن نرتدي ألقابنا فوق الهزيمة، وننتقل بتلك الأسماء الرنانة إلى المنفى، تلك الأسماء التي كانت تحافظ على تماسكاها في أرضٍ على الأقل ظننَّا أنَّنا ننتمي إليها؛  فمن كان سلطاناً أصبح عبداً، ومن كان ملكاً صار أسيراً، ومن كان باشا صار خصيّاً، ومن كان قيصراً احترق مع الشام عندما احترقت، لمَ الألقاب، وبمَ الفخر والاعتزاز؟، كنَّا نكذب كما نشرب، والآن نكذب ولا نشرب!.

في شوارع المنفى تستشيط حمَّى التشريفات، ويضاف إليها اللقب الجديد الذي ما كنا نعرف عنه الكثير (السوري)، فتجد اللافتات أبو فلان السوري، مطعم الملك السوري، القيصر السوري، يبدو أن الحاجة إلى تحديد الجنسية المعطوفة على الألقاب باتت ملحَّة، ليعلم أصحاب منفانا أنَّنا أصحاب عزٍّ، وفخر، لكن أين مُلك الملك، وأين مملكته؟، وأين زعامة الزعيم، وأبواب حارته؟، كيف فقدنا كلَّ شيء، كلَّ شيءٍ إلَّا التشريفات؟!، كيف حملنا معنا ما لم نملكه في بلادنا؟.

وقفتُ طويلاً أمام لافتة مطعمٍ في الخرطوم (عزُّ الشام)، وفكرت بحرقةٍ كحمارٍ يحمل على كتفيه أسفار الخلاص، أيُّ عزٍّ هذا؟!، لكني لو بحت بهذا السؤال المقيت، لتراكض المدافعون عن التاريخ المعطَّر بالبطولات، وملأوا السماء فخراً، والأرض اعتزازاً، وأغلقوا العيون والآذان عن كوارث العواصم، لدافعوا عن ياسمين الشام الأبيض الفواح، أيُّ ياسمين هذا والبحث عن غرسة ياسمين في دمشق أصعب من البحث عن هيكل سليمان؟!، منذ متى لم يستنشق المدافعون عن ياسمينها رائحة بردى؟؟!!، هل أزكمت الحرب الأنوفَ حتى تعجز عن التمييز بين المجارير والياسمين!.

لو بحت بذلك، لاستنفر الغيارى على الانتماء قصة اختراع العجلة، والأبجديَّة، واكتشاف النار، وما نفع النار التي تحرق صاحبها، والأبجدية التي تخون كاتبها، والعجلة التي تدهس الأطفال في أرحام أمهاتهم؟!! ها أنا أبوح وأبكي، أبكي لأنَّ التمسُّك بالتشريفات، وحمَّى التاريخ التي أصابتنا، يقتلنا أكثر من الحرب نفسها. أبوح وأبكي، لأنَّ شاباً كان في العاشرة عندما باغتت الحرب طفولته، ينبري في وجهي ليحدثني عن عزِّ الشام، وهو الذي لم يرى منه شيئاً إلا الـ”حبي دبي”، أبكي لأنَّ جيلاً كبر في الحرب، لا يعرف من العزِّ والافتخار إلا أسماء المطاعم!، ولغو الدجَّالين عن ياسمين الشام، ومائها المقطوعة منذ أسابيع، أبوح وأنفجر لأنَّني حمارٌ يحمل أسفارَ الخلاص على ظهره، ويبحث عن الحفر ليسقط، ويسقط، ويسقط، ثم يسمي نفسه ملك السقوط، وزعيم الجهل، وقيصر القهر، وباشا الرحيل، وبيك المنفى!.

أبوح وأبكي لأنَّني أخجل من التستر على القهر الذي يقضم هذا الفؤاد، وأنتحب كمجنونٍ فقد جنونه فجأةً، لأنَّ المذلَّة أعمق من العزِّ، لأنَّ المصيبة أكبر من الألقاب، ولأن الياسمين غافلٌ عن الدم، لا يريد أن يراه، ولا يريد أن يستنشق رائحته، يريد أن يبقى مستلقياً عند ضفة نهر المجارير، غير آبهٍ بجثَّةٍ هنا، وجثَّةٍ هناك، ها قد بحتُ، فدافعوا، وابدأوا المزاد على الوطنية، والانتماء، والاعتزاز، ها قد بحتُ فلترجموني!، أو فلتقلعوا عيني بسببٍ واحدٍ يدفع شاباً في العاشرة ليفتخر، بعد أن قضى نصف عمره وعام؛ حرباً، وموتاً، وكذباً، وعطشاً، ورمته الحرب على ضفة المنفى، كسيحاً لا يملك إلى مُزقاً من أوراق التاريخ!.

أيُّ تاريخ هذا؟!…. إذا لم يكن من الممكن التأكد من هوية ميا خليفة ممثلة الأفلام الإباحية، كيف نتأكد من كلِّ هذا العزِّ الذي لم نصنعه، وقيل لنا أنَّ جدَّ جدِّنا هو صانع العزِّ!، كيف نعتزُّ بما لا نصنع، ونفاخر بما لا نعرف، نحن السمر والبيض والشقر والسود، كيف نتجرأ على الاعتزاز بعِرقنا؟؟؟!!!، ها قد بحتُ فاقتلوا البوح إن شئتم، لكن لن تقتلوا الحقيقة، نحن نعتزُّ بما لا نعلم، ونفتخر بما لم نصنع، لنموِّه جرائمنا، وخيانتنا لذاتنا، نحن نخلق ألف انتماءٍ كاذب، لنتهرب من حقيقة انتماءاتنا الوهمية الضيقة، ما أحمرني عندما حملت أسفار الخلاص على ظهري، ولم أقرأ عنواناً منها، ولم أعي بنداً من بنود النهوض، ها قد بحت فارجموني!.

كاتب سوري ـ الخرطوم |  خاص موقع قلم رصاص 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *