الرئيسية » رصاص ناعم » قُوة المكان اللامتناهية، ورواته الثلاثة في رواية السّت زُبَيدة لـ “نوال حلاوة”

قُوة المكان اللامتناهية، ورواته الثلاثة في رواية السّت زُبَيدة لـ “نوال حلاوة”

لولوة أبو رمضان   | 

“ولدتُ في مدينة يافا عروس فلسطين من أُسرة كثيرة العدد، وكان أبي مال قبان تاجر جملة رجلاً مكافحاً تصدى لظروف حياته القاسية منذ طفولته، وتحمل مسؤولية العيش لأمه وأخوته بعد أن ترملتْ أمه صغيرة وبعد أن عادتْ جثة أبيه على ظهر حماره الى مدينة نابلس أثناء الحرب العالمية الأولى التي جلبتْ الفقر والقحط وأطلق عليها في حينها (سفر برلك) ،وهي كلمة تركية تصف بكلمتين معاناة البشر وجفاف الأرض”… ص 37

مقطعٌ من الرواية الفلسطينة “الست زبيدة” للكاتبة الفلسطينية نوال حلاوة الطبعة الأولى 2015، نقدنا هذا جاء من مُنطلق أن العمل الفني عبارة عن وحدة حية مستقلة بذاتها لها ظروفها ومقاييسها الخاصة التي تنبع من داخلها وعلاقاتها الجمالية، كما صرح الناقد نبيل راغب في كتابه (قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ) وهو ما يؤكده أيضا كتاب عصام الشّنطي (الجمالية والواقعية في نقدنا الادبي)، وأن التركيز على عنصرالمكان والرواة في هذه الوحدة الحية المتماسكة، ما هو إلا تفسيراً سيوضح لنا وإلى حدٍّ كبير حقيقة العمل الأدبي الذي أمامنا واستخدام منهج التحليل المنهجي لهذه الرواية بالذات، ووضعها تحت الضوء الهادىء الذي لايعتمد على التعصب أو الحماس أو التحيز لأمر هام، ووجوب اتخاذ العمل الأدبي نقطة انطلاق لكل العناصر الداخلة في تشكيله كما يخبرنا كتاب (بنية النص السردي) لحميد الحمداني. 
واستخدام (نظرية رتشارد) النقدية هنا هي ضرورة هامة أيضا، فهي النظرية القائمة على تفسير عملية التوصيل ثم تفسير القيمة الفنية، قد تنطبق بلاشك على رواية (الست زبيدة)، فهي الرواية التي تُمارس التأثير النفسي على وجدان المتلقي بجدارة، وهذا الأثر قد يختلف باختلاق الوضعية الفكرية والاجتماعية للقارىء، فالقارىء الواعي أو المخلص للقضية الفلسطينية لابد وأن يتعاطف مع البطلة التي عانتْ مرارة الغربة والتشرد، وهجران الأحبة بعد أن كانت معززة ومكرمة في بلادها التي غدتْ لغيرها واحْتُلتْ أمام ناظرها دون أية رحمة أو هوادة.

“هناك الكثير من القصص التي تستحق الكتابة عن هلع نزوح شعب بكامله تقريبا عمن نسي طعامه على النار أو بعض الأمهات التي حملت مخدة طفلها وتركت طفلها نائما على السرير…ص 172

بعكس القارىء اللامبالي غيرالمكترث بالمأساة والذي يرى بطل الرواية بالإنسان الأبله والأحمق، وبين الإخلاص واللامبالاة تتعدد درجات التفكير والسلوك وهكذا يتعدد صدى الرواية بعدد القراء، وهو ما يُسمى بدراسة الرواية من الخارج، هو نهج يكَتمل معه رؤية الناقد للعمل الأدبي، وبناءه الخارجي وليست أساسية في النقد الأدبي عامة. والذي يُصرح بدوره أيضاً بأن لكل نموذج روائي تكوينه الخاص وبصماته المميزة والتي تستلزم معه قراءة النّص الأدبي واستخدام الطرق المتنوعة عند التحليل والبحث واختيار الطريقة المناسبة التي تفرضها القراءات الانطباعية الأولى. 

بناء المكان الروائي أولاً:

وهو أداة تحليل هامة لعنصر الوصف والسّرد التي تحلتْ به هذه الرواية. فهناك علاقة وطيدة بين الوصف وتجسيم المكان معنوياً ومادياً في كتاب (بنية النص السردي) والسّرد هو بنية الزمان والتحامه مع المكان سينشأ معه فضاء الرواية المُغلق في بداية الرواية، فأغلب الأحداث الأولى نقلتها البطلة داخل أماكن مغلقة كالبيوت وبعدها أصبحتْ بنية المكان مفتوحة إلى حد ما عندما أصبحت البطلة تُعاني الغربة (قصص مأساوية سمعتها من الكثير خاصة من مخيمات الشتات…)ص172، مما أدى إلى حدوث هذا الإنسجام في النص وهو أحد الأُسس التي يقوم عليها الإتجاه البنائي. 
والكاتبة في روايتها هذه تلجُ نحو الواقعية التي لا تتدخل في سرد الأحداث بل الأحداث هي من تسرد نفسها بنفسها، ولم يظهر للكاتبة أية ميول تحيز مباشرإلى أية شخصية ما، دون الأخرى فالكل أهلها وذويها وأبناء وطنها المسلوب الحزين، كواقعية نجيب محفوظ الجديدة في ثلاثيته التي تعتمد على حياد واضح في عرض وتجنب أي صراع عقائدي أو صراع فكري قد يظهران بين الأبطال كما جاء في الكتاب النقدي (بنية النص السردي). وإن كان هناك ميلاً تجاه شخصية الأب، تلك الشخصية المساعدة للست زبيدة والتي ساندتها معنوياً في طفولتها واستمرتْ معها طوال الحياة، فقد كان يُثني عليها دوما (حكاياتي تتابعينها بعمق وتصنتين إليها بجوارحك أكثر من أخوتك الصبيان وهذا يجعلني افتخر وأعجب بك أكثر هم بالنسبة لي كوم وأنت اربعة وعشرون كوما )ص111.

والتحام المكان ،ومكانته الكبيرة تظهر عند الست زبيدة، ونقرأه تحت عنوان (عيون القارة) عندما ذكرتْ بالتحديد عن أوائل المستوطنات اليهودية في العهد العثماني وعيادتها المتخصصة بأمراض العيون وأثر هذا المكان الإيجابي على أسرتها وطفولتها والتفكير الجاد بأن تُصبح طبية أطفال فيما بعد. 

من الذي يروي الرواية الكاتبة أم الراوي السّارد ؟

من هو الرواي؟ هل هو شخصية معروفة الهوية في الرواية؟
الراوي في رواية (الست زبيدة) هو الذي يروي الرواية من ألفها إلى يائها بضمير الأنا في السرد الروائي، وهو مفهوم نقدي نجده بارزاً كل البروز في هذه الرواية، وقد جاء ليكشف لنا عن عالم الحكاية المروية التي تبثُها الكاتبة في الرواية على لسان البطلة واستخدامها بكثرة (الأنا) (دهشتُ من نفسي ص158…اشاهدُ من علو السماء والجبل ص159… ألتصقُ بابي اكثر واكثر وانا اتملى وجهه السمح الخاشع… ) 159
لتُقدم الرواية الراوي الأول وهو: (الست زبيدة) بشحمها ولحمها وهي بمثابة الشخصية الرئيسية أيضا، وهي الراوي الذي يُحلل ويعرف كلّ شيء ص 171 هو الراوي الشاهد والحاضر على كل ما يجري، مُدعماً كلامه بالأرقام ص 188، يتدخل لأنه هو المُتحدث الأول والأخير في الرواية بضمير (الأنا) أو بضمير (نحن) فهو أذاً الكاتبة السيدة (نوال حلاوة ) بدليل قولها في آخر فصل من الرواية ( زرت يافا فور حصولي على جواز الاجنبي وذلك عندما عملت مع المؤسسة الكندية لصناعة الافلام الوثائقية ) ص362.

والراوي الثاني: الحاضرالغائب لكنه لا يتدخل في سير الأحداث، هو ينشد كلاماً مؤثراً، ولغة شعرية مُنمقة أحيانا أو كلاماً فلسفياً رمزياً، أو حواراً خارجاً عن النص مادحاً للست زبيدة مدحاً يتناسبُ مع الموقف،  وقد تتقمص الكاتبة دور( الراوي الثاني) أحياناً وتنشدُ شعراً نثريا يحن إلى يافا.

والراوي الثالث : ظهر فقط في نهاية الرواية، ينقل للقارىء فاجعة موت الأحباء، ويظهر نفس الراوي مرة ثانية تحت عنوان( الزجاجة الحمراء )، ويتميز بأن وصفه كله حنين ألم وتَذكرِ لأيام الطفولة في مدينة يافا. 
كل راو هنا جاء بشكله المميز ووفق ما يقتضيه سياق السّرد، فالراوي الثاني والثالث جاءا كما أراد لهما الراوي الأول أن يجيئا، وإن كان الراوي الثاني هو القريب كل القرب من أحاسيس وعواطف الكاتبة فهو من كان يُتابع سير حياتها ونموها ويُغدق عليها كلماته الشعرية النثرية المؤثرة بين الحين والآخر بحرقة وتحسر.

فن السيرة الذاتية في الرواية:

والرواية نراها قريبة جدا من فن السيرة الذاتية، لكن الكاتبة نوال حلاوة كتبت على غلاف كتابها (رواية) ولم تضع (سيرة ذاتية) فعلتْ كما فعل الروائي حنا مينه في ثلاثيته بقايا صور والمستنقع والقطاف، وسهيل ادريس في الحي اللاتيني كما أوضحته لنا الناقدة الدكتورة (يمنى عيد) في كتابها الرواية العربية، والتي تفسره بالقناع الروائي الذي هو وسيلة فنية يواجه فيها كُتَّاب السيرة المعيار الأخلاقي الذي يُحاكم به الأدب.
فالسيرة الذاتية فن تمكنتْ منه الكاتبة بشكل مباشر لتجعل روايتها تبرز مفهوم الراوي بأشكاله المتعددة ،وعلاقته بما يرى وكيفية ما يرى ،وشكل ما يرى، كما أبرزت روايتها معاناة ماسأوية للغربة وصعوبة فقدان الأم والأب بصورة انسانية مؤثرة ومبكية أيضا، لتبرهن لنا على أهمية الرواية ودلالتها الفنية على كل ما يُرى ويُحس على أرض الواقع كما أكدته د. (يمنى عيد) في كتابها (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي). 

دور المكان الحميم وعنصر الزمان: 

الحديث عن المكان الأول في الرواية يتبلور من خلال الزمان الماضي والذي يبدأ بالعصر العباسي خاصة والرغبة الأكيدة من الشخصية الرئيسية في معرفة سر اسمها من والدها -الذي لم نعرف له اسما -، كما جاء في أول صفحات الرواية (باختصار يا ابنتي كان للست زيبب حضور ومكانة كبيرة في حياة زوجها خاصة والعباسين بعامة) ص15. 
فهذا الاختلاط الشيق بين الزمان وبين المكان كان هو المشجع الأول لمضي المتلقي في القراءة والرغبة في معرفة اسم المكان وشخصياته الذين سيحركون الأمكنة، ويخلقون لنا رواية إنسانية ستُسجل في الأدب الفلسطيني لا محالة، وتضيف تلك الرؤية الإنسانية الصادقة لتتشكل معها الأماكن والشخصيات الأخرى بشكل أكثر إثارة وعفوية لتستمر هذه الحياة عبر عوالم الأمكنة، فالمكان عند( نوال حلاوة)، قد غدا البيت الحنون والوطن الكبيروالجريح والروح المليئة بالعواطف والمعاني بل الإنسان الكامل و الغني بمشاعره وعلاقاته الحميمة بكل الأماكن التي تلته فتشابكتْ علاقاته بها وإنشاء العلاقة الحميمية والأكيدة والتي تجلتْ في التعلق بحب مدينة يافا وزيارتها ( بعد زمن قارب الأريعين عاما، زرت مدينة يافا القديمة ….أجل بعد سنوات عجاف من سنين القهر والغياب كنت أحقق حلم عمري )ص 361-362.

المكان هو البطل الأول والأخير

المكان هنا قد ارتقى إلى مرتبة الشخصية الرئيسة في الرواية وقد يسبق في بطولته ( الست زينب ) أهم شخصية في الرواية، لأننا لن نجد لشخصية الست زبيدة أية هوية إن لم يكن المكان محدداً لها، هي والشخصيات الأخرى التي في قلب الحدث (لقد عشتُ في يافا أجمل أيام حياتي وكل من عاش فيها لن ينساها )ص 131، وحتى الشخصيات العابرة التي لم تذكر إلا مرة واحده لا تمتلك هويتها ووجودها السريع إلا من خلال المكان، كجدة وعمة وخالة للست زينب ص78- 88، فالمكان في الرواية ليس أحجارا أو كومات من التراب بل هوالكائن الذي نألفه ونحبه وندافع عنه ونشعر بالأذى والحسرة والحزن والتغرب من أجله نجده هنا مُشخصاً تحت عنوان ( يافا أم الغريب) وايضا الحب المتبادل بين المكان والإنسان (أحبت امي يافا كما احبتها يافا ولم تنساها …) ص41.

ونلمح جماليات المكان وذكر الكاتبة لها بكثرة (كانت يافا ارضا خصبة لالوان وأطياف الزهور كالفتنة والقرتفل والورد والنرجس…)و ص 186 (غادرنا مدينتنا الحبيبة وبيتنا الجميل والاليف ..غادرنا عزنت ونبض قلوبنا…)
المكان هو الغوص في أعماق الأشياء وأنشاء علاقات حميمة وواضحة ومنسجمة وفعاله مع الشخصيات (مازالت لمعات وومضات الروح لبعض الاماكن والاحداث تتدفق في حواسي كنبع ماء يشق طريقه بين صخور الزمن ) ص 163.

والانعكاس الايجابي للمكان على شخصية الست زبيدة في الرواية جعلها تتسم بالرومانسية الحالمة، في المقابل ترى هي أن الصراع والضيق النفسي يأتي بسبب هذا المكان أيضا وتركه له والحزن المتكرر عليه عند النزوح الى بلاد الله الواسعة، ففقدانه هو من أجج هذه الشاعرية والحسرة معاً ولا أحد سواه. لذا هناك التحام شديد بين المكان وكل الشخصيات وخاصة الست زبيدة، ثم أُمها وأَبيها ، لنجد أن الست زبيدة تنفي صفة هذا الإلتحام بالمكان عند المحتل الغاصب لأرضها، وتركز على ذلك في أكثر من موضع إما بالوصف القصصي اوالإتيان بأدلة من التاريخ لكن يقل الحوار في الرواية ويكثرُ السّرد والوصف (… مأساة شعب طرد من ارضه بقرار دولي ظالم قاس ومتحيز…) ص 171.

مما أدى إلى تواجد السّرد التفصيليمن ناحية والحشو الذي لاداعي له في منهج الرواية الحديثة ص15-17-125-173 من ناحية أخرى ،وكثرة التكرار والإعادة للفكرة الواحدة في أكثر من موضع وخاصة عند الحديث عن مواضيع مرتبطة باللاشعور وحب الأهل والوطن، لكنها مُبررة من ناحية نقدية إجابية وانطباعية انسانية، فالتكرار يعني الكثير والكثير لمن فقد وطنه فهو كأنه تأكيد واهتمام من الكاتبة على وجود عمق وتغلغل وحقيقة واقعة للأفكار، لديها ولدى القارىء العادي المهتم.

النقد الذاتي

هو عنصر موجود في الرواية (لو بقي في مدنهم وقراهم لما استطاعت اسرائيل أن تتوسع …) ص173، نقد ذاتي يُخبر به القاريء مباشرة في الرواية بشكله السّردي دون اللجوء إلى التكنيك الفني الروائي الذي ينقل الفكرة المراد نقلها بطريقة غير مباشرة وذلك عن طريق الشخصيات الفاعلة والأحداث الراهنة مثل رواية (ربيع حار) لسحر خليفة عندما نقدت الطبقة الفلسطينية البرجوازية الذين يتعاملون مع االيهود الصهاينه ،ونقد السلطة الفلسطينية وأنها لاتختلف عن الأنظمة العربية وكذلك رواية( أصل وفصل )التي تسير على نفس النهج ذاته.

حركة الشخصيات الواسعة والمحدودة

هما حركتان تفرضهما طبيعة المكان الفلسطيني الذي أخذ قسراً وظلماً في رأي الكاتبة، فالحركة يحس بها كالحركة الواسعة في البيت والمدرسة والمدينة، أما الحركة المحدودة تأتي في الرواية عندما يفرض على الشخصيات جميعها النزوح إلى أماكن معينة كالهجرة الإضطرارية كنابلس والعيش الدائم في أماكن الغربة والشتات، والسؤال الذي يفرض نفسه من القارىء العادي والقارىء الناقد على حد السواء هو: لماذا هذا الإستمرار والإلحاح على مكان بعينه في فلسطين وذكره كتابة من خلال ثمانيمائة واثنين وثمانين صفحة؟ هل هو هروب من الواقع الأليم بالكتابة أم اثبات لهوية بدأت تتلاشى في تلك المدينة العريقة كيافا ام أنها تمسكا من الكاتبة (نوال حلاوة) بالملكية الخاصة وحب العودة الى هذا المكان بالذات أم أن الكتابة الروائية تريدُ أن تُخلد مدينة يافا دون سواها ؟
إن العلاقات التي أقامتها (ست زبيدة) مع الشخصيات أولها المكان ما هي إلا علاقتنا الإنسانية نحن جميعا معه ، فنحن سنصبح بدون ذاكرة لولا أماكن الطفولة والشباب، ودون انتماء لولا الوطن، ودون استقرار لولا البيت والمدينة الأم ، ودون حياة ومستقبل لولا الأرض.

المكان والزمان المعنوي

عنصران مهمان من عناصر السّرد نجدهما أكثر إلتحاماً وعنفواناً في رواية الست زينب، فالمكان يرتبط بزمنين لا ثالث لهما : زمان قديم ما قبل 48 وما بعد 48 من زمن جديد ومجهول، ايضا المكان القديم كان موجودا بكل اشكاله زمن الهناء والسعادة والاستقرار وما يليه من مكان جديد وهو الغربة والتنقل والحنين، فبداية المكان الجديد هي نهاية المكان القديم وزمانه، فالزمان والمكان الفلسطيني القديم يعني الأصالة والعراقة بعكس المكان المجهول الذي ما هو إلا الخوف وعدم الإستقرار من زمان غير موجود، كل هذا التناقض بين طبيعة الإثنين فرضه المكان وحده وتغيره القسري،(عشتُ حياة حافلة وتنقلت في أماكن عديدة وزرتُ بلادا كثيرة وأحببتُ مرات كثيرة وعشقتُ مرات ومرات… )ص27. 
ولا ننسى أن الزمان القديم يُضفي على المكان الفلسطيني شموخاً وعزة وعشقا فلا يظهر أصل المكان إلا بقدم الزمان الذي سيصبح تاريخا لللأجيال القادمة (غادرنا مدينتنا الحبيبة وبيتنا الجميل والاليف …وبرتقالها وليمونها اللامع والثقيل غادرنا عزنا ونبض قلوبنا …) ص186، كما أن الكاتبة تذكر تداعيات تجارب الزمن القديم على الزمن المستقبلي الذي لم يظهر بعد في الرواية ص 101، ليتداخل كلا الزمنين مع بعضهما البعض، لتزداد أهمية هذه العلاقة بين الزمان بالمكان للقارىء ،وتستمر البطلة تسرد سردها لتتطور معها الأحداث من الأحسن إلى الأسوء ومن الأسوء الى الأحسن وهكذا دواليك، وذكر زمن حبها وزواجها بعد ذلك في مصر وحياتها العائلية السعيدة هناك ص278-310.

الزمان الفني

هو لعبة الكرة التي يتقاذفها قلم الكاتبة قد ترميها إلى بعيد فتطول المدة أو تلقيها فتقصر المدة، فالزمان الفني هنا في الرواية كان طويلاً يتناسب مع المأساة الفلسطينية وتغليفه بحب وحنين للأماكن وساكينيها، فأهل البلد المتمثلين بالست زينب وعائلتها الفلسطينية أبا عن جد، نجدهم في هذا الزمان الطويل من أول الرواية إلى آخرها، والزمن الطويل لا يتناسب مع مصطلحات القطع أو الإستباق التي جاءت بها الكاتبة في الرواية، ونجدها متعددة تظهر بين الفنية والأخرى بين السطور التي أضفت عليها صفة غير محببة من صفات الرواية التقليدية التي تَقطعُ على القارىء تسلسل الأفكار، وقد تنعته بقلة الذكاء وقصر النظر (قصة أول خوف تجرعته في حياتي يتجدونها في مكان اخر في الرواية …) ص 49 ( وخلال كتابة روايتي هذه اصبحت قادرة مع التدريب…) ص 151 (ولا أدري اذا كنت ساراها مرة اخرى وفعلا لم يرها فقد توفاها الله …)ص161 (وبعد ذلك اكتب لكم الحكاية من جديد) ص163 ، كما نوّه عليه في الكتاب النقدي( بنية النص السردي ) لهذا طالب النقاد جميعا في الرواية الحديثة بالإستغناء عن هذا( الإستباق ) احتراماً للمتلقي وحفاظاً على تماسك النص الفني بأكمله. وقيمة الزمان تنبع من الجمال الذي يضفيه المكان فالمكان كمدينة يافا ( يافا عالبال) ص187 ونابلس وبعدها مصر ، هو وصف قلب الأهل الحنون والطبيعة الساحرة والآثار والبيوت القديمة التي هي رمز الإنتماء وتأصل في جذور الإنسان صاحب الأرض.
المكان واللغة

استخدام اللغة الفصحى، وبعض العبارات العامية القليلة في العمل الأدبي ما هو إلا الوعاء الفني الجميل للأحاسيس والأيديولوجيات المتباينة، واللغة هي من تفسر لنا كنهة المكان والزمان وعلاقته بالشخصيات بالطريقة المباشرة التي تستخدمها الكاتبة والطريقة المكرره للمعاني والألفاظ، واللغة هي من سمحت بذكر العادات والتقاليد الفلسطينية من أكلات شعبية كالشعبونة والقزماط والكنافة النابلسية وكلمات عامية تفسرها الكاتبة للقارىء غير الفلسطيني في أسفل الصفحة، واللغة هي أمثال تخص الفلسطينين وحدهم وخاصة أهل يافا وجمال اللغة وبساطتها في هذه الرواية زادتْ من العواطف الجياشة للوطن والاهل وللزوج وللاولاد للقارىء وأضفتْ على الأحاسيس الإنسانية رسيس ووجد من عاشق يبث هواه للمكان أولاً وللأشخاص ثانيا وللأناشيد الفلسطينية التي مازالت ترددها العائلات في الأراضي المحتلة والشتات ثالثاً، ص 325 -326-327 -328، والتعمد هنا في استخدام اللغة الخطابية والتقريرية من خلال أسئلة تطرح في الرواية ص 175-181،وترتيب ما تقوله بواسطة عناويين كتبتْ للأجيال القادمة لتعرفهم بيُسر وسهولة تاريخ بلادهم فلسطين، أما اللغة البسيطة الدافئة والمتواجدة في كل فقرة والتي تتسمُ بها هذه الرواية الفلسطينية بالذات، هي من أعطتْ الرواية السهولة في القراءة للقارىء العادي المُحب لوطنه بل و كل إنسان محب لفلسطين، لغة كانت بمثابة الوعاء الواسع والعميق للتاريخ الفلسطيني وتقاليده العريقة كي يُملأه كِتابةً وفكراً من أبنائه الأصلين، بدلاً من أن يأتي اليوم ويكتبه الآخرون الغرباء عنّا وعن الزمان والمكان.

كاتبة وناقدة فلسطينية  |  خاص موقع قلم رصاص 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *