في الثانية عشرة ليلاً يبدو طريق النسيم المؤدي إلى المطار شبيهاً بسطح القمر حسب ما تتناقله صور الأقمار الصناعية الخاصة بناسا بين فترة وأخرى عند إطلاق مسبار جديد. من ساحة النجوم يتسرب ظلام ثقيل لتغرق المنطقة كلها في عتمة قاتمة توحي بأن الأبنية قيد الإنشاء هي أنقاض منطقة منكوبة، لا حياة، بضع نوافذ مضاءة بليدات شاحبة، كلب شارد يقطع الطريق وشاحنة متوقفة في منتصفه تماماً وقد غُرز دولابها الأمامي في حفرة طين.
نقترب من المنطقة الصناعية حيث تتوزع الملاهي والكازينوهات على الجانبين شاحبة وقد جُرّدت من أضواءها الملونة واللافتات الدعائية للمطربين والراقصات.. صدر قرار بإغلاقها منذ أقل من عام نتيجة إطلاق نار لتصفية حسابات انتهت بقتل أحدهم.. لا أستطيع التكهن إن كانت ما تزال تعمل بالخفاء الظاهري، فالسيارات المتوقفة قربها نادرة على خلاف أيام العز.. لكن رائحة الشواء تنبعث قوية في الهواء البارد واللافتات الدعائية ما تزال تزين مدخل جرمانا بكثافة خاصة مع اقتراب عيد الحب..
نلتفّ على الجسر المؤدي إلى عقربا لننطلق إلى “مطار دمشق الدولي”… اوتستراد قاحل تنيره الإضاءة الطرقية الصفراء حسب الخطوط الكهربائية المتصلة بها.. فننتقل من جزء مضاء إلى جزء مظلم وبالعكس.. وكأننا كائنات صغيرة وسط فضاء كوني نتنقّل على سلسلة من الأضواء الصغيرة التي تضيء أشجار أعياد الميلاد..
لم أعد أذكر إن كانت الأشجار على الجانبين أكثر كثافة وارتفاعاً لتمنح هذا الطريق “الدولي” المؤدي إلى قلب العاصمة مظهراً مهيباً يستقبل الوفود والرؤساء..
الآن كل شيء مختلف.. فالمساحات العارية كثيرة.. الأشجار مقطوعة فوق الجذر بقليل لتمنح قليلاً من ألسنة اللهب لمدافئ الحطب المرتجلة لأحزمة الفقر المحيطة المختبئة خلف سواتر ترابية كي لا نراها نحن العابرين من هنا ولا نرى حجم الدمار اللاحق بها.. وربما بسبب القناصين الذين تركزوا لفترة بكثافة على هذا الطريق.
وكأن لا أحد غيرنا يعبر الحاجزين المؤديين إلى المطار، نناور بين السواتر الإسمنية لنتوقف ونفتح النافذة في إجراء اعتيادي ونمد “الهواوي”.
*****
المقاعد القليلة في صالة الركاب مشغولة بالنائمين الذين افترشوا الأرض أيضاً ملتفين بأغطيتهم ساندين رؤوسهم على حقائبهم المهترئة بدل الوسائد..
نائم على بطنه وحذاءه قربه، ثقب كبير في جوربه يكشف عن كعب مشقق، السعر الرسمي للدولار حسب الكوة التابعة للبنك التجاري 336 ليرة سورية أما اليورو فيزيده بثلاثين.
على الشاشة الالكترونية لا طائرات قادمة اليوم سوى تلك الواصلة من الرياض لكنها ستتأخر عن موعدها.. على الشاشة الأخرى عدة رحلات مغادرة، ثلاث شركات… الطيران السورية وأجنحة الشام وفلاي داماس وكلاهما خاصتان… أهلية بمحلية تسيّر الرحلات إلى اللاذقية والقامشلي والكويت والشارقة والنجف وموسكو.
على المقعد قربي تجلس فتاة في العشرين تنتظر رحلتها إلى القامشلي المحددة في الثامنة صباحاً.. ندردش ليمر الوقت فتخبرني عن أسعار الرحلات إلى القامشلي المتراوحة بين السبعة آلاف ليرة على الخطوط السورية وثمانية عشر على أجنحة الشام واثنين وعشرين على فلاي داماس.
إن كنت مواطناً سورياً صالحاً تستطيع الحجز مباشرة شرط أن يتوفر لديك المال، أما إن كنت من المعدمين النائمين على مقاعد المطار بالجوارب المثقوبة والجلابيات الملونة فعليك أن تحجز تذكرتك قبل ثلاثة أشهر أو تجازف بالسفر براً عبوراً بولايات الخلافة الإسلامية على الطريق الشمالي.
إنها تدرس في معهد صحي وتستأجر غرفة في ركن الدين كي تختصر على نفسها أجرة المواصلات، سرفيس المتحلق الشمالي كفيل بإيصالها إلى المزة حيث تقع كلية الطب، لكنه نادر في فترة الازدحام. أسألها إن كانت ستنام قليلاً قبل موعد رحلتها فتجيب خجلاً بالنفي..
*****
يسألني أبي عن الوقت الذي استغرقته رحلتي الأخيرة إلى الكويت مستغرباً طولها.. اخبره بأن لا أحد يطير فوق سوريا سوى طائراتها وطياريها المدنيين، الطائرات الحربية لا دخل لها بالحديث هنا. أحدّثه عن تلك الالتفافة من مطار بيروت جنوباً فوق البحر بعد منع شركات الطيران العربية من التحليق فوق المجال الجوي السوري بسبب الحرب الدائرة على الأرض، حيث يتراشق الأطراف بالصواريخ كتراشق الأطفال بالحجارة التي قد تكسر زجاج نافذة الجيران دون قصد.. الطيران فوق سيناء ممنوع أيضاً بعد حادث تحطم الطائرة الروسية.
المفارقة هنا أن سماء فلسطين مفتوحة أمام الطيران العربي.. رأيتها من الجو… مضاءة، دافئة وقريبة.. إن مددت يدك من نافذة الطائرة يمكنك لمسها لكنك لا تستطيع.. ذات الإحساس الذي راودني وأنا أنظر إليها على الضفة المقابلة من البحر الميت، قريبة لكنها ليست لك.. وكأنها نجمة في مجرة بعيدة مختلفة لم تستطع قصيدة الراحل سليمان العيسى التي كبرنا عليها في كتبنا المدرسية أن تقربنا منها.
6 شباط 2016
موقع قلم رصاص الثقافي