الرئيسية » مبراة » “الدفع قبل الرفع”

“الدفع قبل الرفع”

في البدء كان الكلمة، واكتسبت الكلمة هالة من القداسة، وأصبحت مع الأيام ميثاق شرف، وكثر هم الذين دفعوا حياتهم من أجل كلمة قالوها، أليس هذا ما حصل مع الشاعر المتنبي؟ خسر حياته من أجل قصيدة نظمها بـ”ضبة العتبي” وأمه، وحين أراد الفرار من وجه فرسان كمنوا له، قال له غلامه أتهرب وأنت القائل:

 الخيل والليل والبيداء تعرفني  والسيف والرمح والقرطاس والقلم

لكن ذاك الزمن ولّى إلى غير رجعة ولم يبقَ منه سوى أحاديث تُروى في سير الأجداد وبعض المسلسلات التاريخية، ليس في بلادنا وحسب حتى في سويسرا بلد المال والبنوك التي بقيت الكلمة فيها لفترة ليست بعيدة هي الميثاق المتعارف عليه بين الناس.

ثم جاءت الكتابة كمرحلة من مراحل تطور الكلمة وحاجة ضرورية لتثبيت الصكوك والتوثيق وحفظ الحقوق بأكثر من الكلام، وتختلف أسباب الكتابة مع اختلاف ثقافة وفكر ووعي من يمارس هذا الفعل، وفي ظل كل تلك الاختلافات والتباينات بين حملة القلم ورواده تبقى الكتابة من أجل الكتابة فعل مقدس، وقلة هم من يبحثون عن تلك القداسة، ولا شكَ أن معهم كل الحق في ذلك، ما الفائدة إن كتبت بالمجان؟

كتابة بضع صفحات مأجورة أفضل بكثير من بضع كلمات مجانية، ليس جشعاً إنما هي معادلة العيش ببساطة، قلمك هو محراثك تزرع حروفك في أرض الورقة وتحصد مالاً يغنيك عن سؤال الناس، ويُنجيك من سماسرة المواقف، ذات مرة رأيت بوستاً كتبه أحد الأشخاص على صفحته فأعجبني، فسألته نشره لدينا في الموقع، طبعاً أسعده ذلك ورحب به، لكني حين هممت بنشره في اليوم التالي ما وجدته، فأرسلت له مستفسراً ليخبرني أنهم طلبوه في موقع آخر، لذلك حذفه عن صفحته وهو يجري عليه بعض التعديلات والإضافات لينشره في الموقع الممول قطرياً. شعرت وكأنه يقول لي: تم بيع المقال!

وإن لم يتلفظ بها صراحة، لكن اللبيب من الإشارة يفهم، ولا أستطيع الإنكار، نعم أزعجني الأمر، لأنه أعطاني كلمة حتى وإن لم نكن ندفع المال لكن كان من الواجب أن يحترم تلك الكلمة، إلا أنني لا أستطيع فعل أي شيء تجاه الأمر سوى السخرية من الأدعياء الذين يُظهرون للآخرين كم هم مشغولون بالشأن العام، وكم يحملون الهم الثقافي إلا أنك في لحظة عابرة تكشف زيف إدعاءاتهم، ولا يهمهم إن هم أعطوا كلمة أو اتفقوا مع أحد، هذه الآداب والأعراف كانت ذات قيمة في وقت مضى، أما اليوم فالسائد هو أن “الدفع قبل الرفع”، صحيح أن هذه القاعدة يتم تداولها في مجتمع المومسات والعاهرات وفتيات الليل، إلا أنها أضحت تنطبق على مجالات الحياة الأخرى.

إن تلك القاعدة تُمثل أس التعامل بين أغلب المثقفين والمثقفات والمتثاقفات والكُتاب والكاتبات والناشرين والأدعياء والمرتزقة والمتسكعين على تخوم الصحافة والأدب والنشر، الذين يتزلفون للإخوان ويتملقونهم من أجل حفنة من الدولارات، وتلك البلاد التي تملك المال وتفتقر للأدب والثقافة والتاريخ هي التي رسخت مقولة “الدفع قبل الرفع” منذ أن بدأ أهلها يرتادون المقاصف والملاهي الليلية وبيوت الدعارة إلى أن فتحوا صُحفاً ومجلات ومواقعاً إلكترونية وقنوات فضائية.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

محضر تحقيق !

قررت أخيراً أن أضع حداً له، وداهمت مسكنه عند منتصف الليل، كان مستلقياً فوق طاولة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *