مقدمة:
طلع “الراي” موسيقى وأغنية جريحين من عمق ثقافة جزائرية لطالما ركنته في عمق هامشها التراثي الشعري والمغنى، وكأنه المستغنى عنه، فلا يريدونه أن يسطع؟.
“الراي” منذ البدايات قال فاجعاً بمكاشفاته وكلامه الجريء، فاجعاً بحجم مأساة ما يعلى من عذابات، فطلع أغنية متذبذبة بقصائد شعر ملحون حفظه البسطاء، ولطالما ظل هو الآخر شعرا شعبيا تُلقيه شفاهيات المهمشين وحزانى ومهووسين في بادية الغرب الجزائري.
طلع بقصائد فحول شعرائه الشعبيين شعراً رائعاً، وفي حضن الغرب المتمرد ذاته، بغضبه وثوراته، والعاطفي بروحه وشعرائه، والجريء بمكاشفات المحظور، لعل المرأة أولى تلك المكاشفات، ليمضي بعدها ممتطياً لحن موسيقي مذهلة ترفع القافية والحزن، ومضى بما عرف به أغنية رايوية مثقلة بالشجن والقصيد الغاضب، وبمفرداته الدارجة من لغة عربية لا تنطق جيداً بين شفاه رواده، وأضحت حداثية النطق الرايوي المستجلبة من عذابات الآخر.
طلع من البادية إلى سموات سقف موسيقى العالم، أين أضحى مبهراً كما بداياته، جالبا للانتباه بآهات “شيخاته” الأوائل وشيوخه التابعين وشبابه الحزانى المتربصين بالجرأة والأغنية هادمين طابوهات لطالما أثقلت كواهل أيامهم، إلى أن أضحت أغنيتهم نموذجا للجرح المعلن وإنسانيته، فلا أحد يطيق إبقاءه شجنا للظل، هذا “الراي” الجزائري المقاوم.
تاسعاً: راياته ونمطية أسماءه الطاغية
كما الهشيم سقطت أمام راياته أسماء منظومة كانت متكاملة مما يسمى الأغنية الجزائرية وقد كانت متأصلة لكنها لم تطق طغيان التدفق الرايوي الذي أخدها على حين غرة. فأمامه لم يبقي بعد عقدين على أقل تقدير سوى ذكري من أغنية زمن مضي؟ فموسيقي الراي و نمطية أسماءه وراياته كلها اكتسحت ساحات الموسيقي وقد كان مسلحا بما أوردناه كثيرا عنه؟ ولم تفلح الحملات الدعائية الأخرى و التي توصف بالشديدة وقد نفدت ضد الجسد الرايوي بأغانيه و أسماءه ونمطيته أيضا، لم تفلح رغم التشويه الممنهج الذي وما يزال قائما لليوم.
فلا جميع الدين ناصبوه العداء مند أول مرة تمكنوا من فرض أغنية بديلة، فلم يستطيعوا منافسة راياته عند الشهرة والنجومية أو عند نجاحاته التجارة وما كان يستجلبه من أرباحاً كانت توصف بالأموال الطائلة مقياساً بوقته.
لقد كان الراي المنتصر الأوحد في جميع حروبه وعلى جميع ساحاته مند تجليه السبعيني الأوضح من القرن العشرين.
ورغم ارمادة من الأسماء والمطربين المشهورين الذين كانت تعليهم تلك الأغنية الجزائرية في الإذاعة والتلفزيون، ورغم الامكانيات الضخمة التي تحت تصرفها لم تتمكن منه أبدا، وهوت فيمن هوى ممن ناصبوه ؟
أغنية جزائرية لم أجد لها مفسراً سوى القول أنها كانت أغنية معطي بشير المحافظة ذات الصرامة في بنياته اللحنية و التزامها الايكوستكي وكلماتها الشعرية غير الخادشة، فيما كانت أسماءها ومطربيها يطلعون بالزي الاحتفالي وبالبدلات المتكاملة وكانت تقاليد و عادات تلك الأغنية الجزائرية فلا تتنازل عنها أبدا، لكنها ذهبت برمتها ضحية الراي الغاضب المكتسح؟
لقد كان أهم انتصار للراي و للرايوين هو جرأته على التخلص من تلك النمطية الطاغية وتلك العادات في اللباس، فمطرب تلك الفترة كان في التلفزيون وحفلاته يرتدي البذلة المكتملة الطواقم، وكان عليه الالتزام بالوقوف الثابث الذي يعطى للجمهور صورة الشخص المطرب المحترم الذي يحترم جمهوره، كما كان مطالباً بعدم قول أو توظيف ما يخدش المشاعر أو يمس بالعادات و التقاليد اعتباراً أن تلك الأغنية كانت للأسرة الجزائرية والتي يجب عليها بالتالي أن تعلي ضمن الأطر الضيقة المحافظة تماماً.
في الحقيقة ʺالراي ʺ عصف بكل هذا عصفاً مأكولاً؟
فلا الزي الرسمي والإلزاميات في البذلة المكتملة كانت ضرورة أمام أجيال الري وشيوخه وشيخاته، ولا الالتزام الانضباطي على الخشبة أثناء تأدية الاغانى كان ملزماً، ولا اعتبار أن هنالك كلام لا يقال، و كلام يقال فكل ما كان يجلب الاهتمام والمعجبين كان متاحا قوله مرة بسبق تخطيط، ومرات كثيرة يكون ارتجالياً وهكذا بحسب ظروف يحددها الرايوي نفسه حينما يقف أمام جمهوره.
لقد كانت نمطية سلوكية وقولية وعامة أشهرت الرايويين مند البداية ولعلها كانت مناسبة جداً بتلك الأزمنة التي عرفت شهدت صعوداً ملفت لمن يسمون بالهيبين في العالم غداة أواخر ستينيات وسبعينيات وكانت نمطية في الزي والعيش، وعلى ما يبدو فقد أخذ الرايوين عنهم بعضها لأن جل الرايوين كانوا من سليلي تلك الأجواء المتمردة في ظلال ʺثقافة الهيبيʺ وغيرها من الثقافات الهامشية المتمردة الأخرى وكانوا متمردين ومتمردات.
كما أن الأغنية الرايوية قد كسرت شيئاً آخر تمثل أساساً في البنية اللحنية لأغاني والتي كانت كثيراً ما تعطى أغنية الراي فسحات للكلام أو التعليق أو إضافة مقاطع من الشعر الاشهاري الملحون فيما كان يسمى ʺالتبريحاتʺ و كانت تسمح للبراح من دخول أجواء الأغنية دون أن يحدث دخوله اضطرابا أو عدم توازن فجميع من ضمن هده الأغنية متفقون على أن لا نظام يخدم الأغنية الجديدة سوى اللا نظام نفسه، وهو وحده يضمن التواجد و الشهرة ما يحدد كل لأشياء الأخرى، فلا التزام إذاً بالكلمة والنوتة والحركة بل أن شراب الروح كان يتناول ضمن الأغاني المؤداة.
لعلها كلها كانت تلك النمطية المميزة التي درج عليها الراي منذ البداية، ومع الوقت كرست نموذجاً مميزاً لاسماءه وأجواءه ولنجاحاته أيضاً، ولعل الإقبال الهستيري الذي شهده الراي في تلك الأزمنة من الجماهير كان دليلاً قاطعاً على سلامة تلك النمطية الرايوية ونجعاتها. وكانت بمثابة تقنيات فعالة فقد مكنته من الانسحاب على كامل الرقعة الموسيقي للأغنية الجزائرية والتي كانت بدورها في الحقيقة في أضعف مراحلها التاريخية فقد بليت ولم تعد تطيق التجديد أو المنافسة عند عقود السبعينات وما تلا، فقد أنهكتها نمطية أخرى باسماءها وأسلوبها وقناعاتها.
فقد رفع الراي عالياً وجهه الأول وتمرده وتجاوزاته، ولقد كان وكأنه يريد تحطيم أبوة غنائية كانت طاغية وإعادة ترسيم أسلوبه وفلسفته الذي كان يعتمد شتى المناهل والتعبيرات الغنائية والموسيقية الممكنة عكس تلك الأغنية التي كانت على ما يبدو تريد أن تعلى وجها واحداً وحيداً هنا.
أراد التحطيم لكي يبنى من جديد موسيقاه التي كانت تهفو للعصرنة وتلهث وراء الحداثة الموسيقية في الأشكال والموسيقي والشعر. تقدم الراي إلى الساحات كلها لا يأبه بمن قال ما قال، أو من عادي كيفما عادى، أو من حط من جرأته أو أصالته أو انتماءه التراثي فالذي ردده الراي كان أغنيته المولودة من قلب المحرقة والعذاب.
لقد استحدث الراي نمطية معينة التصقت باسماءه في الزي والقول و الحركة، نمطية رفعت راياته عالياً وبشرت به إلى ما وراء الممكن والمستحيل.
موقع قلم رصاص الثقافي