أعد آثار قذائف الهاون تحت قدميّ.. تتفتّح في هذا الربيع كورود أو شموس صغيرة تتناثر أشعتها مبتعدة قليلاً عن المركز.
من قال أن الورود لا تقتل؟
لم تعد السماء تمطر هاوناً بعد اتفاق الهدنة، بل تمطر ماء.
شوادر الاونروا الموزعة في شوارعها كغيوم بيضاء تظلل الطرقات، تقي المارة المسرعين من المطر المتجمّع عميقاً في أخاديد الدبابات التي مرت على اسفلتها..
وفقط طعم الهواء يكشف أن الربيع قد تلبّسها.. بضع فراشات تستدعي الدهشة بحضورها المنسي الغريب كأنها كائنات صغيرة منقرضة عادت للظهور على وجه الأرض بعد قرون كاملة من الغياب في ذاكرة الطفولة. الغبار كما هو وأكياس الرمل تتوزع في أماكنها. شجرة ميموزا نحيلة أزهرت بكراتها الصفراء الصغيرة المنفوشة عند كولبة الحاجز.
قربي فتاة في الخامسة عشرة تقريباً مع والدها المعاق، يسند ساقه على المقعد الخلفي للسائق. لا تتوقف الفتاة عن الحديث بالهاتف طوال الطريق مع جميع أقاربها:
– مرحبا خالو.. كيفك؟ دريت؟ ما قالتك مرت خالي؟ أنا حبلى…
وتستمر بينما أفكر أنا بكلمة: “حبلى”.. أو “حِبلة” كما تلفظها الفتاة…
آخر مرة سمعتها في مسلسل سوري أيام الطفولة، حين كانت الحلقات لا تتجاوز الخمسة عشرة.. ومقص الرقيب أخف وطأة على دواخل الحياة الاجتماعية السورية.. قالتها الممثلة حينها لرشيد عساف أو عباس النوري، لا أذكر.. المهم كانا حينها شابين تعشقهم جميع المراهقات.. لكنهما كبرا الآن مثلنا جميعاً.. لمعا ونحن انطفأنا..
وحدها الذاكرة بارعة بتثبيت الصورة عند لحظة من الزمن، بملمسها ورائحتها، تعيدك إليها مراراً حين تشم رائحة ما تذكرك برائحة تلك اللحظة، أو حين تفاجئك برودة ملمس قطرة مطر وهي تتسلل داخل شعرك أو تتعلق برموش العين.
*****
في جرمانا تختلط دعايات المطربين والراقصات العاملين في كازينوهات النسيم آخرها بلافتات الدعاية الانتخابية لمجلس الشعب.. أحدهم يريد أن يعمّرها، والآخر يريد أن يجعلها خضراء، والثالث سيعيدها إلى طريق الإيمان الذي ضلّت عنه، والرابع سيسقي ياسمينها كي لا يطاله الذبول..
يتحدثون عن سوريا.. تلك الحنونة طويلة البال علينا.. بلازمة مترافقة: “يداً بيد”.. في زمن بات فيه مسك اليد حراماً..
أما نحن.. الشعب.. فماذا نريد؟
أفكر بالنحلة الصغيرة المحجوزة على نافذة السيرفيس، تائهة يائسة ترتطم بالزجاج محاولة الخروج دون أن تدرك أن هذا السطح الشفاف يحجزها عن العالم الآخر هناك.. في الخارج.. أخطأت الطريق لوهلة فأخذها الغادر في رحلة غير مرغوبة بعيداً عن القفير.
أفتح لها النافذة علها تستدرك طريق الرجعة لتعود إلى بيتها.. في هذه الدمشق..
نهاية آذار 2016
موقع قلم رصاص الثقافي