في حال اتفقنا أن الحياة هي مجموع التفاعلات المعلوماتية المنتجة للمعرفة، بين الكائن البشري ( فرد أو جماعة) وبين البيئة المحيطة، سوف نكتشف ببساطة أننا نعيش في بيئة معلوماتية “غربية “، شاء من شاء وأبى من أبى، ولسوف نكتشف أيضاً أن هذه المعلوماتية الأنوارية/ الحداثية، ليست أيديولوجيا، لا بحد ذاتها ولا بمرتسماتها على أرض الواقع كتكنولوجيات يتم توسلها اختياراً أو عنوة أو لسبب عدم إمكانية إنتاجها، فعملية التفاعل عملية ليست أيديولوجية، كما أنها ليست ملكية خاصة لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم، والأقدر على تحويل هذه المعلومات إلى معرفة هو الأقدر على تلبية مطالب العيش والاستمرار الغريزيان كتحد واستحقاق تجب مواجهته بالضرورة، وما ينتج عن هذا التفاعل من معرفة هو ليس مؤامرة تقع خلفها أسباب أيديولوجية تكارهية بلهاء،بل هي نتائج تجارب إنسانية مجتمعية حصراً هي منتجات الجدل مع الطبيعة وترويضها، وإذا كان التنافس الأممي ينحسم دائما لصالح الأكثر معرفة، بمعنى الأكثر مقدرة على إنتاج التكنولوجيات (الوسائل والأدوات)، فهذا ليس لأسباب إيديولوجية، فالاستطراد في المعرفة قيمة إنسانية عليا تتجاوز الإيديولوجيات الدينية والدنيوية معاً، خصوصاً تلك الأخلاقوية التي تبحث (بالسراج والفتيلة) على عقدة اضطهاد كي ( تتعقدها)، لتبدأ موشحات الندب والعويل والدعوة الى الإنتقام عبر هدم إنجازات الآخر بلا طائل ولا جدوى، فالمعرفة مسألة تأسيسية سوف تستمر إلى ما لانهاية رغما عن أنف قليلي المعرفة كثيري “الأخلاق” “الحميدة”.
نحن نتنفس غرباً، إذا انتبه هؤلاء من أصحاب عقدة الاضطهاد …فمن لحظة صحونا الصباحي المعتاد وحتى لحظة إغفائنا الطويلة أو المؤقتة، فكل ترويضات الطبيعة من حولنا ناتجة عن الفكر والتفكير “الغربي” الذي نرفضه بطريقة النكاية ( جكارة بالطهارة) عبر تحميله مضامين إيديولوجية، إتكاءً على ما ننسب علماءنا إلى تسميات لم تكن تخطر على بالهم هم أنفسهم حيث نضعهم مع نتائج تفاعلهم، تحت عنوان أيديولوجي يستدعي عنونة أيديولوجية مختلفة وعدائية لعلماء العالم، هذه العدائية تنهار فجأة وبلا أي سند عندما يحصل زويل على نوبل مثلا، أو عندما يتم استخدام صفة الخوارزميات على عمليات رياضية حداثية ومعقدة كمثال أيضاً، حيث يسيطر الفراغ المعرفي من حول هكذا حوادث، على الرغم من أنها تثبت أن العلم لا جنسية له ولا دين ولا أيديولوجيا، وأمثلة التاريخ المعاصر أكثر من أن تحصى، ولكن كلمة “الغرب” المهذبة تطغى كلياً على كل تفكير وتخرجه من دائرة المنطق الذي نستخدمه على الرغم من كونه غربياً.
كل ما نحتك به في يومنا، إن كان مشخصاً ملموساً، أو كان علماً أو أفكاراً هو من إنتاج هذا العالم ( تاريخياً ) وهذه الدنيا (جغرافيا)، وليس للأيديولوجيات الدينية أو الدنيوية أي فضل أو مساهمة، أو حتى تشجيع أو تهيئة الأجواء التي تساعد على إذكاء التفاعل بين الإنسان والبيئة المعلوماتية التي يعيش، بل ربما كانت على العكس تماماً، حيث يمكن أن تكون محبطة ومثربة بل ومحرمة لهذا النشاط التفاعلي، وربما على القارىء أن يبحث في التاريخ والحاضر عن أمثلة وتطبيقات…هل نعيد أبن رشد كمثال؟….
إنه مقدار ضخم من الحنق على حالنا المزرية هذه، يتطلب مقداراً موازياً من إحترام العقل والعمل والحياة والكرامة الإنسانية، ولا يتطلب أي مقدار من كره الآخر المنتج للعلم والمعرفة التي نتنفسها، ولا يتطلب أي مقدار من إدعاء ملكية المعلومات، لا بدعوى الحقب التاريخية وأسمائها غير المدقق بها، ولا بدعوى انتماء واضعيها إلى إيديولوجية ما دينية أو دنيوية، وإلا سوف نتعرض إلى أسئلة في غاية الإحراج، مثل ماذا لو أنتج أحد أعداءنا الأيديولوجيين دواء ماحقاً للسرطان؟ هل نستخدمه بفتوى أم نحرمه بفتوى أخرى؟ ومع هذا ومع كل هذا الحنق والعداء والتكاره والشكوى والنقيق، لا نستطيع الاستغناء عن منتجات الغرب المعرفية قيد أنملة، وما مماحكاتنا مع هذه المنتجات سوى تعمية عن الضعف والهوان الذي يتلبسنا، وقلة التفاعل التي نظهرها عند كل استحقاق معرفي يؤدي الى العيش والاستمرار.
المطلوب واضح وضوح الشمس، وهو أنت يأتي هذا “الغرب” الحقير والآثم والاستعماري لإنقاذنا ( طبعا بعد الاعتذار منا وقبولنا الاعتذار كي يعطينا ذريعة كي نسامحه ) من ورطتنا المعرفية هذه، ويسلمنا مشعل الإنسانية كي ننير دربها بمعرفتنا المكتملة (من مجاميعو)، بعدها يكون العالم قد نفى عن نفسه تهمة “الغرب” ،ولسوف نناقش معه بهدوء وسماحة مسائل مثل التخلف والإرهاب والغزو على أن لا يعود الى أفعاله المعرفية السالفة لإن المسامحة تشترط عدم العودة الى الفعل نفسه.
ليس بين ظهرانينا بيئة معرفية، على الرغم من توافر المعلومات والتكنولوجيات على قفى مين يشيل، ولكن تحويلها الى معرفة فهو مستحيل في ظلال الأيديولوجيات، التي تمتلك فضاءً مستقلا آخر في العيش الإنساني، فالإنسان هو الإنسان دون أية إضافة أخرى في حال شئنا أن تكون لعملية التفاعل المنتجة للمعرفة جدوى ….أو محل.
مجلة قلم رصاص الثقافية