عبد الله الحيمر |
طغيان الذاكرة على التاريخ في عالم اليوم عبر الخلط الذي تصنعه لدى الإنسان وسائل الإعلام لا يمكن، إلا أن يضر بهذه المحاولة الشجاعة التي يقوم بها الفيلم الوثائقي، لمواجهة موت الذاكرة الجماعية وزوالها، بجعله عنصراً من عناصر هدم الحقيقة التاريخية، بدلا من أن يكون موضوعاً للبحث.
وهذا ما ذهب إليه المفكر العربي إدوار سعيد: «إن اختلاق الإرث هو ممارسة كثيرًا ما استغلتها السلطات بوصفها أداة حكم في المجتمعات ذات التجمعات البشرية، فهو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي، من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة».
فالسينما الوثائقية بالأساس فن تنويري، يكشف حقائق عن طريق الصورة باستخدام شهادات حية من عين المكان، أو وثائق أو أرشيف وطني أو دولي لأي قضية يتبناها. وهي وثيقة الصلة بالتاريخ مند نشأتها، فولادتها كانت تتغذى من التاريخ ووقائعه وأحداثه.
التاريخ والتباس الذاكرة المشتركة
تعتبر قضية الصحراء الغربية من أقدم جيوب الاستعمار الإسباني في شمال أفريقيا التي تسلمها المغرب باعتبارها أرضا مغربية. ووترت العلاقات بين الجارتين الجزائر والمغرب لأزيد من أربعين سنة. هذه الصحراء يعتبرها المغرب رمزا للسيادة، ولم تكن أبدا أرضا خلاء، بل كانت تربطها مع المملكة المغربية روابط البيعة، ومن حقه أن تتكون له صحراؤه التي كانت معبرا تاريخيا لنشر تعاليم الدين الاسلامي في أفريقيا. في حين تعتبرها الأمم المتحدة أرضا محل نزاع دولي ولابد من حلها عبر استفتاء دولي. بعد أربعين سنة من السيادة على الصحراء، يستفيق المغرب من سباته، باعتباره من أهم الدول العربية التي تدعم السينما بالمال العام، ويراهن على السينما كواجهة حضارية ليبرز من خلالها وجهة نظره بالحكم الذاتي والجهوية المتقدمة للأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، للرأي العام العربي والدولي، استدرك متأخرا هذا السلاح الثقافي عن طريق الصورة في مواجهة عدوه اللدود جبهة البوليساريو.
توظيف الوثائقي
خصص المغرب ميزانية تقدر بـ15 مليون درهم سنويا لدعم الإنتاجات الخاصة في الصحراء، ويهدف المشروع إلى التعريف بمختلف مظاهر الصحراء وفي الوقت نفسه تدارك القصور في توظيف أفلام وثائقية للدفاع عن الصحراء أمام المجتمع الدولي. وبالفعل بدأت ثمار هذا الرهان على أفلام وثائقية حول الصحراء بتنظيم مهرجان في العيون تحت اسم» المهرجان الوطني للفيلم الوثائقي حول الثقافة والتاريخ والمجال الصحراوي الحساني» ينظمه المركز السينمائي المغربي، وفي لجنة دعم إنتاج الأعمال السينمائية الأفلام الوثائقية، بقيمة إجمالية بلغت 22 مليونا و 120 ألف درهم مغربي.
ويزداد التساؤل الممزوج بالدهشة في وقت يشهد فيه المغرب أزيد من ستين مهرجانا سينمائيا بين وطني ودولي. ومنها مهرجان مراكش السينمائي الدولي الذي يحتفل بدورته 16 هذا العام، الذي تصرف عليه أموال طائلة، لم يستطع استقطاب ممثل عالمي للدفاع عن الصحراء المغربية، أو مؤسسة ثقافية أوروبية أو أمريكية تتبنى المشروع المغربي في الصحراء. في حين مؤسسة روبرت كينيدي بكل ثقلها تقف إلى جانب البوليساريو وتسعى مؤخرا لاستقطاب نجوم هوليوود لتأييد فكرة البوليساريو، في حين لم يستطع المغرب الذي تقول الجزائر والرئيس الأمريكي المقبل أثناء حملته الانتخابية إنه دفع 15 مليون دولار لمؤسسة كلينتون، ولم يتم استقطابها سينمائيا كما تفعل البوليساريو.
إنتاج متهافت
وأنتج المغرب بعض الأفلام الوثائقية ولكنها لم تحظ باهتمام بسبب غياب رؤية ذكية في معالجة الطرح المغربي كيفية مخاطبة الرأي العام الدولي. منها مؤخرا فيلم ، باسم «البوليساريو: هوية جبهة» لمخرجه حسن إبلهروتي عرض مؤخرا في عدة دول من الاتحاد الأوروبي. وهذا الفيلم الذي يفتخر المغرب بإنجازه، يعد ناقصا عند نقاد السينما الوثائقية من حيث شمولية فكرة التأسيس والإكراهات التي صاحبتها، لأنه لم يعرض لأخطاء المغرب في نشأة البوليساريو، كما جاء في الندوة التي نظمها مركز «هسبريس» للدراسات والإعلام تحت عنوان «ملف الصحراء، الرهانات والآفاق» على لسان عضو المكتب الاشتراكي محمد اليازغي ومفادها: أن هناك خطأين كبيرين ارتكبهما النظام المغربي، غيرا مجرى الأحداث في الصحراء، أولهما حين أقدم على حل جيش التحرير وثانيهما حين ووجهت التظاهرة التي قام بها الشباب الصحراوي بقيادة مؤسس جبهة «البوليساريو» الوالي مصطفى السيد، سنة 1972 في مدينة طانطان بالقمع من طرف الجنرال أفقير. وهذا ما دفع النائبة البرلمانية الاشتراكية حسناء أوب زيد أن تصرح بأن «الخطاب المغربي لا يمتلك تأشيرة في الخارج».
وكان فيلم عربي وحيد هو «عائدون « يدافع عن الصحراء المغربية أخرجته المخرجة الفلسطينية سعادة تغريد من إنتاج كندي، حيث قالت: «رأيت من الضرورة تسليط الضوء على الوضع المغيب عن الإعلام العربي، وتسليط الضوء على أفق الحل، كما أن الفيلم يقدم إضاءة للقضية أمام الغرب، ما يسهم في تعديل أو تغيير بعض الصور النمطية».
نسوق هذه الشهادات لنقول بأن المغرب يملك زخما تاريخيا يؤهله أن يكون مالكا للذاكرة والتاريخ وللمصداقية. ما لم يعرف كيف يوظف هذا الإرث التاريخي للصحراء بعيدا عن البروباغندا الرخيصة. في حين البوليساريو الذي لا يملك صناعة سينمائية، ينهج والهيئات المتعاطفة معها استراتيجية الأفلام الوثائقية، منذ مدة طويلة بسبب سهولة عرضها في الملتقيات السياسية والفنية. وكذلك لسهولة ترويجها في المواقع التي تقدمها شبكة الإنترنت وعلى رأسها شبكة يوتيوب الذي يزخر بأفلام وثائقية واستطلاعات وريبورتاجات. منها مؤخرا فيلم «نحن متمردون في الصحراء الغربية». يتحدث عن آخر مستعمر في أفريقيا من إنتاج قناة بريس الإيرانية. وقد نجحت الجبهة عن طريق ثقافة الصورة باستحضار مواقفها العدائية ضد المغرب كمستعمر والمطالبة بالاستقلال عنه. وقد تساهم أسماء بارزة في السينما العالمية في دعم البوليساريو، ومنهم خافيير بارديم الممثل الإسباني صاحب الأوسكار الذي أنتج فيلم «أبناء السحاب، الصحراء الغربية آخر مستعمرة». هذا الفيلم وفر للبوليساريو تعاطفا دوليا بعدما جرى عرضه في مهرجانات عالمية منها مهرجان برلين. إلى جانب أفلام أخرى حديثة. وخلال المدة الأخيرة، أخرجت البريطانية لويس أورتون فيلما وثائقيا باسم «عائلات متفرقة» عن الصراع الذي لا يصب في مصلحة المغرب، وقد بدأ عرضه خلال الشهور الماضية في المهرجانات وعرضته قناة «الجزيرة».
تجربة مسروقون
وأحيانا تجري الرياح بما لا تشتهي سفن البوليساريو، فقد دعا طاقم سينمائي أسترالي لتصوير فيلم عن الصحراء الغربية. وإذا بالطاقم الأسترالي المتكون من «فيوليتا إيالا» و»دان فالشو» يصور فيلم «مسروقون» يتناول قصة فاطيم صحراوية ضحية العبودية في مخيمات البوليساريو في تندوف في الأراضي الجزائرية. عملت جبهة البوليساريو المستحيل لمنعه ولكنه عرض في مهرجان ميلبورن السينمائي. والمهرجان السينمائي الوحيد الذي يشرف عليه تحت اسم «في الصحراء» في تندوف يقوم بعرض الأفلام في الهواء الطلق في الصحراء الجزائرية وتشرف على إدارته جمعية إسبانية .
حروب الوثائقي
ويقول الناقد السينمائي عبدالله الساورة إن سينما البوليساريو بمثابة «حرب بالصورة والقلم، وأخرى بدبلوماسية. أسلحة تخاطب العقل والوجدان والعاطفة، وتأثيراتها أصبحت أخطر من طلقات الكلاشنكوف». ويبقي الحوار هو الحل الأفضل لأبناء الصحراء لحل هذا النزاع ، وأن يكون هذا الحوار، كما قال حسن أوريد: «شجاعا وجريئا وشاملا وممتدا، وليس تمرينا أكاديميا». كما أن الحوار يقتضي أن تكون للبوليساريو شرعية، فإن كان لا يمكن إنكار الشرعية المكونة لجبهة البوليساريو في مرحلتها الأولى، فلا يمكن كذلك إنكار أن من غادرها والتحق بالمغرب لديه شرعية، ولا يمكن التغاضي عن أن عبارة «الشعب الصحراوي» أتت مع الاستعمار الفرنسي الذي رغب في تقسيم المنطقة، ولا يمكن إهمال أن من يمثل الصحراويين، أكبر من أن يحصر في البوليساريو وحده.
ناقد مغربي | موقع قلم رصاص