أشذوذٌ أختاه، إذا ما
لثم التفاحَ.. التفاحُ
(القصيدة الشريرة .. نزار قباني)
كل يوم تفعل أمي الشيء ذاته .. أحس بأنها مصابة بداء التوحّد .. تعود من عملها.. تتجه نحو المطبخ.. تعد الطعام.. نأكل بصمت.. تسألني إن كانت سوسو قد جاءت اليوم… أحاول أن أقصّ عليها حكاياتي, أبدأ بالحديث عن سوسو لكنها تشرد وراء صوتي ثم تدخل غرفتها… أسمعها تتكلم.. تسأل وتجيب.. تجادل.. تصرخ.. تجهش بالبكاء وقد تفرقع قهقهاتها .. كم مرة حاولت اجتياح وحدتها.. كم مرة حاولت دخول عالمها الغامض بكل ما تعني هذه الكلمة.. لكنها كانت جداراً خرساني لا يمكن اختراقه..
بينما هي تخترق عالمي وترسمه بدقة وعناية.. أذكر عندما أخبرتها بتلطخ ثيابي الداخلية باللون الأحمر, لم يكن منها سوى أن أحضرت ما يمنع التسرّب, وقالت باختصار: لقد أصبحت جاهزة للإنجاب.. ومرة دخلت غرفتي وأمرتني أن أنزع صور الفنانين عن الجدار.. صممت على مخالفة أوامرها ونظرت في وجهها بتحدٍّ فاقتربت من أذني وصاحت: ألم تسمعي ؟؟ هيا انزعي هذه الصور ودوسي عليها. شدتني من يدي لدرجة أنها آلمتني فنزعت الصور ورميتها على الأرض فداست عليها وهي تصرخ بهستيريا: ممنوع وجود الرجال في بيتي.. الرجال حشرات.. صورهم ليست للزينة, أحذرك أن تضعي هذه المخلوقات هنا لأنك تجهلين أن مكانها الطبيعي تحت الأقدام. لا يمكن إلا أن أعذر أمي .. فقد تركها والدي وتزوج في بلاد بعيدة .. ومنذ ذلك اليوم تتكوم صور عارضات الأزياء والراقصات والممثلات على جدراني والقطط والسيارات بألوانها وأحجامها المختلفة..
سوسو معلمة الموسيقا.. شرحت لي عن الدم الأحمر.. ولم تكتف بذلك فقد شرحت وبالتفصيل عن كيفية تحول هذا السائل إلى جنين يسبح في الرحم.. وقالت تفاصيل مدهشة عن أشياء لم تذكرها أمي..أشياء بدأت تداعب خيالي.. هي صور متلاحقة لرجل يشبه أبي وامرأة تشبه أمي يتعريان بلحظة ويتعاركان بلحظة ثم ينفصلان ويعود كل شيء إلى حاله الطبيعي.. في كل مرة أسأل سوسو عن ذلك الشيء ومرة بعد أخرى يلتهب فضول أسئلتي عن أبي وأمي وفي كل ليلة أراهما يتعريان ويندغمان ثم يفترقان بآخر لحظة…
سوسو تعزف موسيقا بالغة الحزن… سوسو هي عالمي الذي بدأ يتبلور يوماً بعد آخر.. موسيقا سوسو هادئة وصاخبة ومترنحة وذليلة.. تلعب أصابعها فوق مفاتيح البيانو فتنغلق وتنفتح الأشياء بسوادها المطلق وبياضها المطلق دون أي زركشة أو مبالغة.. كل ما تقوله سوسو هو قاعدة باستثناء غيابها ..ملأ صوتها عالمي (يا رايحين وتلج ما عاد بدكون ترجعوا… صرّخ عليهم بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا)… بكينا لوحدة متشابهة المسافات.. متقابلة الزوايا.. ضمتني إلى صدرها بقوة كادت أن تمزق أضلاعي وهي تردد اسم رجل هلامي مختلط الملامح…
سافرت أمي في رحلة عمل إلى مدينة ثانية وتوجب أن تبقى سوسو في بيتنا.. كم كنت سعيدة بذلك فحديث سوسو يثير في جسدي رعشة تشبه الحمام الدافئ..وفي أنين صوتها لذة تخيفني وتتلبس بروحي.. تقترب مني سوسو.. تضع كفها الكبير على وجهي تمرر أصابعها الطويلة فوق شفاهي التي تتيبس فجأة.. ينزل كفها على عنقي.. يضغط عليه.. ثم ينزل على صدري يتوقف هناك يزداد لهاثي ويتفحم قلبي.. تشرح لي عن عمل كل عضو في جسدي.. صوتها آلة حفر لا ترحم.. (وحدهون.. وجوهون وعتمة طريق.. عم يقطعوا الغابة وبإيدهون متل الشتي يدقوا البكي وهني على بوابي)…
تتحدث سوسو عن حبيب كان يواعدها كل يوم في حديقة المدينة..
تفرُّ إليه كطفلة.. تنتظره لساعات بين المقاعد الفارغة.. ثم تعود إلى بيتها الصغير الذي يقع في قاع المدينة المزدحمة بالأحلام .. تنام في سريرها .. تتعرى… تمارس مع حلم الحديقة كل أنواع الحب… تقبض عليها زوجة أبيها متلبسة بجريمة ممارسة الحلم.. تضربها وتحرقها في بؤرة حلمها.. سوسو لا ترتدع وتمارس حلمها المحترق لتزيده اشتعالاً.. وتصرخ لذتها المحترقة بصوت يكسر زجاج الروح..
أنا وأمي كل يوم نمارس الأحلام .. أحلامنا ترتدي أزياء متشابهة وألواناً متشابهة ولغة خشبية متماثلة الحروف..
أمي تقتل حلمها بسلطة ساذجة لا تمارسها سوى على نفسها .. أنا أقتل حلمي بمساكنة الصور التي أخفيها عن عيون أمي..
وحدها سوسو تُلبس حلمها أجمل الحلي وتدعوه لحفلات ليلية لا يشرق عليها الصباح.. تبرم معه اتفاقات لا تحققها إلا فوق جسدي الصغير..
وبغفلة مني ومن أمي تتلبسني سوسو وأصبح نسخة مكررة عن شجونها وهمومها.. حتى صوتي أصبح مشابها لصوتها الذي يدخل في كوّة الروح, ويعشش هناك حتى يصدأ ويموت دون أن تشيعه يد.
مجلة قلم رصاص الثقافية