بيروت..
نجلس على الشرفة وأمامنا البحر يحجبه بناء برجي طويل وحيد وسط بيوت طابقية منخفضة الارتفاع، وفي المدى المختبئ خلفه تلمع أضواء السفن المسترخية على الموج.
تتأرجح بنا الأرجوحة فأغيب في خدر لطيف لأنفصل عن الواقع، أطفو في مكان بعيد ما داخلي، برزخ قائم ما بين الذاكرة والآن.
– بتعرفي إيمان كم سنة إلنا منعرف بعض؟
نبدأ بحساب السنوات الكثيرة جداً، تُنقِصُ منها سنة فأضحك.
مذهل كيف تقاطعت حيواتنا في لحظات مرت بنا لتشكل ذاكرة مشتركة لتفاصيل خطها الزمن، نسيتُها فتذكرني بها، ونسِيَتها فأذكّرها أنا.
كتبت اليوم على صفحتها الزرقاء كذاك البحر الممتد أمام شرفتها: “من لم يعرف تجربة الخسارة الكاملة.. للبيت.. للمكان.. حتى لفكرة الوطن.. حتى لمعظم شرايين الذكريات قد يصعب عليه اكتشاف معنى الخفة (…) أن ترمي تلك الحقيبة الثقيلة عن كتفك.. الزهد حتى بفكرة العتب.. الزهد حتى باجترار الذكريات.. الزهد حتى بالألم.. غيابك من جديد في فكرة الضياع اللذيذ.. تدمير ما بنيت وكل ما اشتريت.. التخلص من كل الممتلكات والمقتنيات حتى لو كانت بعض قوارير الزريعة التي تسقيها كل أسبوع.. أو حليب تسكبه في وعاء لقطتك التي تحب.. أو حفنة كتب ولوحات فوق رفوفك اليومية تعيدها لعلب كرتونية وكأنها ليست لأحد.. وطاولة كبيرة تتبرع بها لساكن جديد.. ثم تحفظ قلبك في ثلاجة ليست بحرارة الجسد تضعه في حالة موت سريري.. هي الحرب حيث الخسارة الكاملة ثم بأناقة تشعل سيجارة فوق كومة الدمار هذه وتبتسم بزهد .. لم تعد تملك شيئا .. وتغادر مكاناً تدفع ثمناً شهرياً لتخلق فيه ذاكرة لم تعد تريدها .. أنت هكذا أكثر خفه.. يعني أكثر حرية”.
أتصل بها فتخبرني أنها تستعد لتقبّل فكرة (ضبضبة) أغراضها لبدء رحلة جديدة..
في مكان آخر.
مدنٌ تبتلعنا، وأخرى تتقيؤنا.
وفي كل مدينة شمس مختلفة، فيتعرق الجسد
حسب تلك الشمس، قطرة العرق التي تتسلل بتمهل نزولاً على الرقبة لا تشبه تلك القطرة الأخرى، تحت الشمس الأخرى.
يلمس هواؤها جسدك بطريقته المختلفة، ورائحتها لا تشبه سواها، لا تشبه رائحة أي مدينة أخرى. لن تستطيع التعرف إليها إن لم تلمس قدميك أرضها، تمشي في شوارعها، وتشعر بتفاصيلها وهي تدمج ذاكرتها بذاكرتك، في هذه اللحظة، الآن، تلامسك.. وإن لم تفعل ذلك فلن تعطيك سرها أبداً.
حين ينعس شجرها، تغفى أوراقه، و(تتسكّر) على بعضها مع حلول المساء.
شجر بيروت ينبت وسط ذاكرة الحرب ليخبّيها، أما دمشق.. فلا شجر فيها، تتغطى بغبار سخن، تدفن قتلاها وتواصل اجترار هواءها المثقل برائحة البارود، شهيقاً بطيئاً طويلاً لتحفظ رائحتهم في رئتيها وتطول الذاكرة.
*****
دمشق…
هناك مدن تأكل ابناءها.. ودمشق ابتلعتني حتى سكنتني.. وها هي ترتاح على يدي، تمر فوق الشريان.
سائق السيرفيس يتحدث بموبايله منفعلاً عن مشكلة في الزمور تؤثر على كهرباء السيارة. انزل عند الباب الشرقي فتقطع طريقي جنازة، موكب متواضع بباقات متواضعة وصوت جنّاز يُسمع بالكاد. أقطع إلى الجهة الأخرى من الشارع فترافقني جنازة أخرى، صوت القرآن من مكبر سيارة دفن الموتى ينساب على مهل كقطرة العرق الملعونة تلك.
قبل مغادرتي المنزل اتصَلَت أفين:
– في قذائف.. أجلي روحتك للمسا..
همهمت على الهاتف:
– طيب..
-رايحة؟ ما رح تسمعي مني.. ما هيك؟
أن تذهب بقدميك إلى مكان سقطت فيه عدة قذائف منذ نصف ساعة هي قمة العبث، ألا تذهب.. هي قمة العبث أيضاً في هذا العبث الكوني الذي نحيا فيه.
تاجر الانتيكا قرب قصر النعسان مصر أنني سائحة أجنبية ويريد أن يبيعني أطواقاً من الخرز. أضحك وأخبره بأنني سأتفرج فقط ولن أشتري شيئاً لأنني مفلسة فلا يهتم ويتابع فرد بضاعته أمامي، حتى انه يعرض علي شراء بعض الشالات الشتوية في هذا الحر.
أمر قربهم، يجلسون أمام البيت على كراس منخفضة يشربون المتة، جذع الياسمينة يتضافر على بعضه متسلقاً نحو الأعلى، وبرودة الظل تحرك رائحته بينما يخشخش زهره الذابل تحت دعسات قدميّ.
لكل مدينة رائحتها، لا تشبه إلا نفسها، ودمشق تبتلعني على مهل.
بيروت 6/8/2016
مجلة قلم رصاص الثقافية