رغم أن الفساد بمختلف أنواعه هو السبب الرئيس للأزمة السورية وما تلاها من حروب وكوارث إنسانية، أحدثت ما أحدثته من خراب في بنية المجتمع، إلا أن وطننا ما زال يعاني من مأساة تتساوى إلى حد ما مأساتنا مع الفساد الأخلاقي والاجتماعي والمالي، وهذه المأساة المزمنة في سورية هي أزمة العقول المتحجرة، وهي أزمة كبيرة تبدأ من الفرد ثم الأسرة فالعشيرة والقبيلة والمجتمع بكل فئاته ومفاصله وصولاً إلى الدولة ومؤسساتها، وهذا طبيعي لأن من يقودون الدولة هم أبناء المجتمع ذاته ولم نستوردهم من كوكب المريخ.
وتكمن المشكلة الأساسية في أي مؤسسة من مؤسساتنا ومهما كان مجال عملها بالعقلية التي تديرها، وتضع الخطط المناسبة لها، ونحن في سورية نفتقر لأسلوب التخطيط الحقيقي والواقعي، لذلك كل ما يمكن إنجازه يظهر طوباوياً، ومنفصلاً عن الواقع، ودائماً ما نحصد الفشل والخيبات المتكررة، وهذا ما كنا نعاني خلال العقود الماضية في مختلف المجالات ومنها الثقافية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العمل الحكومي، ولو لم تكن معتلة بداء مُزمن كنا تجاوزنا الكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا منذ سنوات وقد تجلت واضحة في الأزمة التي نعيشها ثم من خلال النتاج الثقافي الذي تم إنتاجه في ظل هذه الظروف المأساوية وما سبقها، ويتحمل من تولوا ما سبق كل ما انتج لاحقاً لأنهم هم من أسسوا لهذه اللغة الخشبية.
الشيء الأكيد أن المثقف السوري لا يثق بالمؤسسات الرسمية وكذلك المواطن، وإن الكتاب الذي يكون مكتوباً عليه إصدارات وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب العرب ينفر منه القارئ على الفور، باعتبار أنه “مسحوب خيره” كما جاء في المثل الشعبي، وهذا في الحقيقة يؤكد وجود هوة بين المواطن والثقافة التي مصدرها الحكومة، نحن على دراية بضياع بعض المخطوطات في أدراج هيئة الكتاب، وعن ضياع حقوق كُتّاب..والكثير الكثير..ولو أجرينا استطلاع رأي في الشارع سيكون الجواب حتماً: “اتركنا يا شيخ بلا ثقافة بلا بطيخ”.
إن التحرر من كل القيود والأعراف والأحكام هو سبيل الإبداع والتميز في بلد يسود فيه لون واحد، وكل مؤسساته على اختلاف تسمياتها وأدوارها وأسماء القائمين عليها تُحكم بالعقلية ذاتها، لأن المرجعية واحدة لكل تلك المؤسسات، ومحاولات التمايز التي تحصل هي ليست سوى طفرات قد تحدث نتيجة رغبة طارئية بالتغيير ربما يُحدثها شخص جديد تم تعيينه في أحد مفاصل العمل فأراد أن يقلب الموازين ويغيّر الواقع إلا أنه سيصطدم دائماً بعثرة الإيديولوجيات المتحجرة التي لا يمكن له مقاومتها، وإن حاول سيخسر موقعه لنرجع إلى نقطة البداية كمن يدور في حلقة مفرغة.
إذاً علينا أن نترك النتائج ونسعى خلف معرفة الأسباب، وما قلته هنا ليس سوى جزءاً بسيطاً من تلك الأسباب الكثيرة، التي لا يمكن حصرها وتحتاج إلى معالجة جذرية وحقيقية غير منفصمة عن الواقع وحينها يمكن أن تحصل على نتاج ثقافي حداثي ومعاصر وإن أطالوا سلاسل الأقلام قليلاً ربما يصبح هناك من يستشرف لهم المستقبل ويخبرهم أن زمن الخطاب الخشبي قد ولى منذ ما يزيد عن قرن.
مجلة قلم رصاص الثقافية