بتّ أشرد كثيراً مؤخراً مثلاً: بدل أن أحمل بيدون الماء الذي أحضره أبو العز من فسحة الدرج لأضعه في المطبخ، أحمل البيدون المليء من المطبخ لأعيده لأبي العز بدل الفارغ. أو مثلاً: بدل أن افتح باكيت السجائر بشكل طبيعي كما يفعل جميع المدخنين، أنزع عنه غلافه الشفاف بالكامل وأنا مقتنعة تماماً أنني أفتح الكروز، ثم أتساءل بعفوية شاردة لم طال بي الوقت وأنا أقوم بفتحه، إلى أن أدرك أخيراً ما اقترفت فأضحك.
*****
يبدو أن الخريف سيأتي مبكراً هذا العام، فرغم الشمس الحادة هناك نسمة هواء باردة تحرك أجراس النصب التذكاري المنتصب قبل الوصول إلى ساحة باب توما بقليل، فتدق حزينة خجلة مما أصابه من إهمال وتكسير للبلور المحيط بهيكله، افتتحوه في مناسبة ما ثم أهملوه كباقي النصب ولم يلتفت أحد إلى أصوات أجراسه الحزينة التي لا بد أنها تمثل “وحدة” ما مع “أخوّة” و”تضامن” مع “مجزرة” وما إلى ذلك من مصطلحات عريضة.
وسط الساحة، وعلى إعلان طرقي كبير يظهر مطربنا الشعبي “علي الديك” مبتسماً وهو يرتدي سترة جلدية بنفسجية وتحت أحرف أسمه بالبند العريض تظهر كلمة “لعيونك”، لم أفهم مغزى الإعلان بداية، فما الذي سيحققه علي الديك من أجل عيوننا نحن السوريين؟ فكرت وفكرت ثم استدركت أنه بسبب شرودي مؤخراً أهملت قراءة معظم كلمات الإعلان ولم تلفتني سوى سترته الجلدية البنفسجية.. إلى أن أدركت أخيراً أنه إعلان لشركة “سيرياتل” و”لعيونك” هو عنوان أغنية لنشترك بخدمة “رنة بغنية”، وفكرت أيضاً أن بعضاً من معارفي وأصدقائي حين الاتصال بهم اسمع خطاباً للرئيس الراحل أو جزءاً من خطاب السيد نصر الله، فهل يدخل ذلك ضمن ميزة “الرنة بغنية”؟
أقطع الحاجز المؤدي إلى الساحة وأنا اتفحص اللافتات المعلقة على الجزء المتبقي من السور المحاذي للنهر، “شهداء المقاومة الإسلامية في سوريا”، أكثر من عشرين صورة على اللافتة نفسها إضافة إلى صور فردية عديدة كبيرة متناثرة على جميع المساحات المرئية الممكنة.
*****
القيمرية تلك المنطقة المزدحمة بالملونين والداكنين من الناس بألوانهم، لم يتغير شيء من حياتها رغم أننا في حالة حرب ننساها فتذكرنا بها أصوات القصف المكتوم والنعوات الملصقة على الجدران والأطفال بعمر الست سنوات وأقل بات هذا الجنون حياتهم الطبيعية التي سيستغربون غيرها في حال حدث وانتهت الحرب في يوم ما.
يلعبون الطاولة قرب الدكان، شاب يرشرش الماء على جاره بائع الفلافل ضاحكاً، فتيات تتفرجن على أقراط ملونة علقت في الواجهة التي تعرض حسماً على موجودات المحل من أكسسوارات ومساحيق تجميل وطلاء أظافر ملون بألوان قوس قزح.
في دكان الجلديات أجلس مع العمو الأخرس والأطرش أدخن سيجارتي، ذاك الذي لم يحتمل الحياة في بيروت وعاد منذ ثلاث سنوات ليفتح دكانه مجدداً.
يسألني أن كنت أسكن في الدويلعة، فأنا كثيراً ما التقيه عند موقف الباب الشرقي، أخبره بأنني أسكن في جرمانا محاولة التكلم ببطء والنظر في عينيه كي يتمكن من قراءة شفتي وفهم ما أقول، يخبرني أنه رآني عدة مرات عند الموقف وكنت شاردة، أجيبه أنني كذلك بالفعل فيسألني بم كنت أفكر:
– بالشغل.. وبالحياة..
أو بالأحرى “بالكون والوجود” لكنني طبعاً لم أخبره بذلك.
وأطلب منه ألا يهتم بي وبشرودي، فيقول لي أن الحق معي والحياة أصبحت صعبة بالفعل، ثم يعرض علي ما صنعه حديثاً من جزادين جلدية صغيرة جميلة ويتحسر على حلب والوضع الميداني فيها، تلك المدينة التي أذكرها في طفولتي كأهم مركز لصناعة الأحذية التي لا تذوب ولا تهترئ مع مرور السنين.
يثني على حقيبتي الجلدية، يمتدح صناعتها وجلدها بعد أن يتفحصها بأصابع يديه المتعبة من غرز المخرز في النعال، فأخبره أنها من المغرب، تلك الرحلة المستقطعة من الحرب التي لم أدوّنها في “اليوميات”، تلمس ذاكرتي بألوانها الفاقعة ورائحة البخور وكمّ المحطات الدينية التي يُسمع خطابها في دكاكين ساحة الفناء، وتلك الجملة السحرية: “السلام عليكم”، تمطّ الابتسامات على وجوه الباعة لتجعلهم ليّنين أثناء المفاصلة للشراء، لأنهم يبيعون “الأخ” المسلم بسعر يختلف عن المحدد للأجنبي.
من المغرب.. أحضرت إضافة لحقيبتي الجلدية ومنفضة سجائر زرقاء حنيناً ناخزاً حدّ الاختناق لدمشق، وإدراكاً قاطعاً بأنني لا أستطيع الحياة في أي مكان آخر سوى “هنا”، وسط هذا الجنون كتلك السمكة المختنقة في حوض الماء، تفتح فمها على اتساعه وتحاول.. وتحاول.
17/8/2016
مجلة قلم رصاص الثقافية