طبعاً… ربما ومن نافل القول أننا “كعرب” ليس لنا علاقة بعلوم الاجتماع، فالعلاقة مع العلوم تنتج معرفة، والمعرفة تنتج إنجازا، وهذا ما لم يتحقق لنا من هذا العلم الذي تأسست عليه مجتمعات عصر الأنوار جميعها، واستجابت لمستحقاته الكثير من الأمم ولحقت بمجتمعات عصر الأنوار المشار إليه، ولا حاجة لتكرار حكاية تخلفنا الاجتماعي (ليس المجتمعي على أية حال) وما أنتج هذا التخلف من مصائب كارثية نتناول علقمها مع كل ثانية تمر على هذه الكرة الأرضية.
طبعاً لا مجال للعودة وإصلاح الخلل، فالعودة مستحيلة فها نحن مقبلون على عالم جديد مختلف تماماً عن كل ما عرفناه عن الحياة، عالم سوف ندفع فيه كل ما نملك إذا لم نعرف طريقاً للمشاركة فيه، فما بالنا برفض المشاركة الموروث عن أسلافنا؟ فالنقلة التي صنعتها مفاهيم عصر الأنوار قد تمت وانتهى الأمر بما نحن عليه الآن، وها هو العالم يدخل بمجتمعاته الجديدة الى عصر المواصلات والاتصالات الذي يقدم (كما قدم عصر الأنوار) صيغة جديدة للاجتماع البشري بدأ العالم بدرسها واكتشاف قوانينها المستجدة من أجل التحكم بها وترشيدها.
اليوم بدأ العلماء والمفكرون ومؤسسات التفكير العامة (الجامعات ومراكز الأبحاث) في دراسة الاجتماع البشري الجديد الناتج عن انفتاح التواصل بين الخبرات الحياتية لسكان هذه الكرة الأرضية على ما يشكل هذا الانفتاح من صدمات عنيفة (وعنفية) تحتاج الى ترويض وتحكم، تماماً كما احتاجت الطبيعة سابقاً لوسائل (تكنولوجيات) للتحكم بها وبمواردها، وهنا وعند هذه النقطة يظهر التقصير في إنجاز الالتحاق بالحداثة ونتائجه وعقوباته، فالشعوب التي لم تلتحق بالحداثة تحت أية ذريعة كانت، سوف تدفع ثمن هذا التقصير مهما كانت أسباب أو ذرائع أو مبررات عدم الالتحاق هذا، وكل الاحتجاجات التي سوف تسطر في هذا الأمر تنتمي إلى زمن سابق لم يعد مفهوماً ولا متفاهماً عليه اليوم.
فالشيفرة المجتمعية التي فات هاتيك الشعوب برمجتها في جيناتها الثقافية، لن نستطيع تغطية هذا الفراغ الكارثي، وعليها إما أن تتغير لتصبح شعوباً أخرى، أو البقاء في مطرحها كبؤرة لتفريغ شحنات العنف العالمية، وفي الحالين لا جدوى في البحث عن خصوصيات “هويات” تبرر وجود التخلف وحتى ممارسته كحق حداثي، لأن المرحلة برمتها قد عدت وفاتت ولم يعد من المجدي البحث فيها، فالشخصية المجتمعية (الهوية الحداثية) إذا لم تكن قد ولدت بعد كل هذا الإنجاز المعرفي البشري فمن المنطقي تماماً أن الحمل كان وهمياً، أو أن الإجهاض قد تم منذ فترة طويلة ولم تتم معرفة ماهيته.
جناحان طار بهما العالم منذ اكتشاف أميركا حتى اليوم، الجناح الأول هو الهجرة والانتقال في أرجاء الأرض لدرجة أن هناك قارات تأسست على صيغ مجتمعية حديثة (الأميركيتين، استراليا، جنوب أفريقيا)، وأمم جديدة ولدت وعاشت وتصارعت وتشاركت مع العالم في إنجازاته، وشعوب قديمة تبنت صيغة المجتمع الحداثية لترتقي وتصارع وتشارك ( أوربا واليابان والهند الخ) لتصل إلى ما وصلت اليه اليوم من استعداد للانتقال إلى مرحلة مجتمعية جديدة.
والجناح الثاني هو المعرفة التي تكثفت مظاهرها في تكنولوجيتي المواصلات والاتصالات، اللتان تم تطويرهما إتكاءً على إنجاز المجتمع وإعلانه في فترات زمنية قياسية مقارنة مع الزمن التاريخي، هذه المعرفة التي صنعت تكنولوجيات انتقالها قدمت للعالم شبكة من التواصل تجعل من انتقال المعرفة من البدهيات، وبالتالي تناول المعلومات التجريبية الارتقائية وتداولها وتجريبها وحتى ممارستها، ما يجعل العالم أوركسترا سيمفونية معلوماتية ومعرفية قادرة على العزف الجماعي إنطلاقاً من المهارات الفردية، والانتماء إلى هذه الأوركسترا أو الخروج عنها يشكل الملمح العام للتقدم والتخلف في عالمنا هذا.
في كل الأحوال لقد ولد الاجتماع البشري الجديد بناء على نتائج المنجز البشري في المواصلات والتواصل، ومهما كانت النتائج الدرسية له سوف يشكل السياق العام لسيرورة هذا العالم لحقبة زمنية قادمة، وليس مهما في شكل أو في حال الالتحاق به أو محاولة مقاربته، فالمعادلة العالمية معروفة في هكذا أحوال، فهناك دائماً رابح وهناك خاسر، تماماً كما مر في تجربة عصر الأنوار على شعوب ومجتمعات، فهناك من نجح وارتقى وأضحى من مجتمعات الشبع والمنعة، وهناك من ظل يتخلف الى أن أصبح في قعر الحضيض باحثاً عن قعر أعمق يحتمي به حفاظاً على خصوصياته المخبأة للحظة استعادة الأمجاد، واليوم يعاد السؤال من جديد على جميع الشعوب مع تكرار نفس الجملة التي يعرفها العالم بكثير من الحرص والانتماء وهي (المجتمع معرفة والمعرفة قوة).
اليوم هل يمكن لنا الطلب من أنفسنا دراسة تجمعاتنا السكانية بناء على واقع معرفي مستجد؟ بمعنى تجسير الفجوة (الفوات المعرفي) بين ما نظن أننا عليه، وما نحن مضطرون كي نكون عليه؟،حيث يبدو الاضطرار إلى هذا عملية معرفية تلحقنا بالمنجز البشري الذي يعطينا فرصة الدخول إلى حلبة التنافس على الشبع والمنعة؟
دخول عملية التنافس على الشبع والمنعة ليست عملية خيالية، فقد دخلتها شعوب وأقوام وتخطت حاجز الخصوصية المعرفية الثمين، ونجحت في أن تكون مجتمعات/أمم بدرجات متفاوته حسب مقدرتها على استبدال المعارف القديمة (مهما كانت قيمة تذكاريا) بمعارف مستجدة، ولم تتفرغ للدفاع عن خصوصيات هشة لا يمكن لها التواجد في منظومات التفكير المعرفي حيث رياح العقل العاتية القادرة على اقتلاعها وتهشيمها، ليبدو التمسك بهذه الخصوصيات هو عملية غش معرفية كبرى، وذلك عند استبدال مقومات وجود المجتمع بها، وهي التي لا تصلح إلا للشقاق والصراعات المحلية الدامية، ولكره الآخر ومحاولة إبادته، وإذا كانت هناك نتائج أخرى لها في هذه الأيام (كنتائج لممارسة هذه المعرفة ) فليذكرنا أحد بها!.
إن غياب علم وعلماء الاجتماع من “عالمنا العربي”، ليس مقصوداً بحد ذاته، فهو علم معترف به بيننا ولدينا من الكليات والجامعات ما يكفي للإشارة الى هذا الاعتراف، ولكنه كعلم لا يجد مكاناً معرفياً له حتى بين صفوف العاملين به، بمعنى أنه لا مكان أو مكانة معرفية له، فالأيديولوجيات التبسيطية حلت مكانه بما يتناسب مع غاياتها الشعبوية، وإستطاعت إنجاز سياقات معرفية منفصمة عن سياقات المعرفة التي أنجزتها البشرية، لا بل ومعاكسة لها في كثير من الأحيان، وهذا ما يستعصي على الدرس والبحث، إذ من ينظر إلى الأداء الاجتماعي بين مرحلتين (الستينيات والتسعينيات مثالا) يتلمس مدى الانهيار المعرفي الحاصل بالمقارنة لما يجري في العالم، وإذ ينبري علماء الاجتماع في العالم لدراسة المستجدات المجتمعية الناتجة عن الإرتقاء في منظومتي المواصلات والاتصالات، تبدو دراسة الواقع المجتمعي لدينا غير قابلة للدرس مهما خرجت الكليات من اختصاصيين في علم الاجتماع.
في الوقت الذي كتبت فيه هذه المقالة كانت معركة حامية وعابرة تقوم حول فيلم (مولانا) عن رواية (لإبراهيم عيسى) وإخراج (مجدي محمد علي) معركة أقل ما يقال فيها أنها مخجلة، ما يجعل كل ما يكتب حول اجتماعيات هذه التجمعات السكانية لا قيمة له.
مجلة قلم رصاص الثقافية