عامر العبود |
الفصل الأول و الأخير
المسرح معتمٌ بالكامل، ضوءٌ على وسط المسرح بدائرةٍ نصف قطرها متر واحد ومركزها كرسي يتوسط المسرح، على الكرسي يجلس شابٌ يرتدي ثياباً رثةً متسخة؛ بنطالاً يبدو أقصر مما يجب وقميصاً بنصف كم ملوناً بمربعات (كارو) مفتوحاً حتى رأس معدته، الشاب أشعث الشعر عيناه محمرتان وحافي القدمين إلَّا جوارب مثقوبة من الإصبع ومتسخة، عندما يُضاء الضوء فجأةً؛ ينبهر الشاب ويحاول أن يفتح عيونه بصعوبة.
بعد ثانيتين أو ثلاث يدخل إلى دائرة الضوء وسط المسرح من جهة اليمين رجلٌ يرتدي حذاءً أسود لماعاً، وبنطالاً قماشاً أسود أنيقاً، وقميصاً رسمياً بلونٍ أبيض مزرر الأكمام ومفتوح بحيث يبرز صدر الرجل، وتختفي نهايات أطرافه السفلى تحت البنطال لتظهر بكلة الحزام اللامعة، يرتدي فوق القميص حزاماً جلدياً بني اللون ليحمل سلاحه، ويحمل في يده سيجارة شبه منتهية.
بعد أن يدخل الرجل الأنيق، يأخذ النفس الأخير من سيجارته ويرميها على الأرض، يدوس عليها بحذائه اللامع وبحركة دائرية من مشط رجله، الرجل على الكرسي يرمقه بنظرةٍ خجولةٍ خائفة، ثم ينظر إلى الأرض ويديه مرخيتان على فخذيه، يقطع الرجل الأنيق دائرة الضوء مراتٍ عدة من أمام الكرسي، ويخرج من نطاق النظر في العتمة ثم يعود إلى الضوء من خلف الكرسي، يستقر الرجل الأنيق وسط المسرح خلف الكرسي، يتكئ بكلتا يديه على ظهر الكرسي حانياً ظهره قليلاً.
يبدأ الرجل الأنيق الحديث بصوتٍ عميقٍ وبتأنٍ:
- ما اسمك ؟
الرجل على الكرسي بصوتٍ منخفضٍ و متردد :
- راغب
المحقق بصراخٍ مرعب:
- إرفع صوتك يا بني آدم…
الرجل بخوفٍ وصوتٍ مرتجف:
- راغب… راغب
المحقق يرفع يديه عن ظهر الكرسي ويقف منتصباً، يشبك يديه خلف ظهره بعد لحظة صمت ويقول بصوتٍ مرتفعٍ بعيدٍ عن الصراخ وهو ينظر إلى الأفق:
- هل تعلم يا راغب ما هي التهم الموجهة إليك؟
متلعثماً وبصوتٍ يرتجف خوفاً يجيب محاولاً النظر إلى محدثه:
- لا …. لا أعلم سيدي..
يطلق المحقق يديه من خلف ظهره، وينزل بهما بقوةٍ على كتفي الرجل المصلوب على الكرسي وهو يقول واثقاً:
- ولا أنا …(يطلق ضحكةً مجلجلةً بعنجهية)… لكن لا بد من وجود واحدة… لا تخشَ شيئاً لابد من وجود تهمةٍ ما،( يرفع يديه عن كتفي الرجل و يضعها في جيبه ويمشي عدَّة خطوات إلى يسار الكرسي) قل لي يا راغب… ما هو عملك؟.
راغب:
- أنا ….(يسترق النظر باتجاه المحقق ويعود بنظره إلى الأرض) أنا لا عمل لي.. أقصد… لا يوجد لدي عمل محدد.
المحقق وظهره لراغب، مع إيماءةٍ بسيطةٍ بيده قبل أن يعيدها إلى جيبه:
- قل لي ما هي الأعمال الغير محددة التي عملت بها؟.
ينظر راغب إلى ظهر المحقق، ويبدأ الكلام بصوتٍ أكثر استقراراً، لكنَّ جسده لا يزال متخشباً على الكرسي ويقبض بكفيه على قماش بنطاله عند فخذيه كل بضعة ثوانٍ:
- عملتُ في غسيل الصحون… وفي البناء …. وعملت في بيت دعارة… وعملت محرراً في صحيفة…. سائس سيارات، مصوراً، مدققاً إملائياً …
يقاطعه المحقق بملل:
- طيب … هذا يكفي (يستدير و هو في مكانه و ينظر باتجاه راغب) لا أريد أن أطلب يدك للزواج، (يصمت لحظة) هناك شيء ما غريب في هذه الجلسة لا بد أنك لاحظته يا راغب… هل لاحظت شيئاً ما غريباً؟؟.
راغب متسائلاً بغباء:
- لا يا سيدي أخشى أنني لم ألاحظه… ما هو؟
المحقق وهو يشبك يديه فوق بكلة زناره وبهدوء:
- أحسنت… يعجبني فضولك، (صمتٌ قصير جداً) أنا واقفٌ منذ دخلت وأنت تجلس على الكرسي (تتحول نبرة صوته لنبرة غاضبةٍ و عصبيةٍ فجأة) قف أيها الأحمق… قف
يقف راغب على قدميه، و قد زالت الراحة التي بدأت ترتسم على وجهه، وحلَّ محلها الخوف والرعب بوضوح، يقفان متقابلان، ملامح الدهشة والخوف بادية على وجه راغب، وبسمة خبيثة ترتسم على فم المحقق، وبعد لحظة صمت يشير المحقق بيده إلى الكرسي:
- اجلس (مع ضحكة) اجلس يا راغب
يهمُّ راغب بالجلوس على الكرسي مستغرباً وخائفاً، يصرخ المحقق قبل أن تلمس مؤخرة راغب سطح الكرسي:
- على الأرض يا حيوان … على الأرض!
يقفز راغب بعيداً عن الكرسي مذعوراً من هول الصدمة، يجلس على الأرض (الجمهور إلى يمينه) ويتكور كالجنين.
يجرُّ المحقق الكرسي من وسط المسرح باتجاه الجمهور ليقابل راغب (الجمهور إلى يسار المحقق) يضع رجلاً على رجل، يخرج علبة السجائر ويشعل واحدة، ويأخذ سحبةً طويلةً يَنفث دخانها إلى أعلى متأملاً، ثمَّ يعود بنظره إلى راغب ليتابع معه حديثه بهدوء، وراغب متكور على نفسه يقبض على رجليه المطويتين بيدين مشبوكتين وينظر إلى الأرض.
يتابع المحقق حديثه:
- أتدري…. اسمك بحدِّ ذاته تهمة، أتعلم أي شرٍّ في أن تكون راغباً باستمرار… ومنذ الطفولة… يبدو أنَّكَ لا تعلم.. والآن نريد أن نعرف… بما أنت راغبٌ يا ترى؟!
دون أن يرفع نظره عن الأرض، وبصوت متقطعٍ قهراً كأنَّه يريد أن يبكي، يجيب راغب:
- أنا لا أرغب بشيءٍ سوى الخروج من هنا
يضحك المحقق بهدوء ويقول وهو الشامخُ على كرسيه:
- أنت عجولٌ جداً يا راغب…. يجيب أن تجيب على أسئلتي أولاً…. أخبرني هل تعلم سبب وجودك هنا؟؟.
راغب ودون أن يرفع نظره:
- لا …
المحقق:
- ممتاز… أنا أعلم… هل تريد أن تعرف لما أنت معتقل؟؟
راغب بدهشةٍ وهو يرفع رأسه:
- بالتأكيد!!
المحقق:
- أنت هنا بسبب لسانك… أو بالأحرى بسبب سوء استخدامه (يُنزل رجليه على الأرض، ويسند نفسه بكوعيه على ركبتيه, متقدماً بجسده إلى الأمام بعدوانية واضحة) منذ أيام أيَّها الثوري…. كنت تخطب بجمهورِ زملائكَ في العمل في غرفة الاستراحة… عن الحرية … والفقر… والعدالة… وهذه الأشياء التي يهلوس بها أمثالك،(يعود بظهره إلى المسند، يأخذ النفس الأخير من سيجارته ويرميها على الأرض ويدوسها بعنف، يقف ويضع يديه في جيوب بنطاله القماشي) ومن سوء حظك أنَّ جمهورك لم يكن ليفهم تلك الكلمات، فأتى إلينا لنترجم له أو لنجعلك تقول كلام يستطيع فهمه، (راغب مطأطئ الرأس في هذه الأثناء) وكلُّ ما أريده منك أن تفسر لي بعض الكلمات…
يرفع راغب عيونه وينظر إلى عيون المحقق مباشرةً بشجاعةٍ غريبةٍ وصوتٍ واثق مستنتجاً:
- إذاً؛ أنا هنا لأدفع ثمن كلماتي (و هو يعود بنظره إلى الأرض) أنا مستعدٌ لذلك.
المحقق يطلق ضحكةً هادئةً ثم يتقدم باتجاه راغب، يجلس القرفصاء قبالته ويقول بهدوء:
- يا للبطولة(مصفقاً ) أحسنت، (يقف) كنتَ قد تحدثتَ عن التضحية أيضاً، لكننا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، أنت هنا لتترجم بعض المصطلحات التي ارتكبتها…
ينحني المحقق فوق راغب، وبهدوء وبرود يقبض عليه من تحت إبطه ويجره إلى وسط لمسرح، يتكور راغب وسط المسرح شابكاً يديه على ركبتيه.
يمشي المحقق باتجاه الكرسي ليجرَّه ويضعه بشكل مائل بجانب راغب إلى يساره وعلى طرف دائرة الضوء، واقفاً خلف الكرسي ومتكئاً على مسنده يبدأ الحديث:
- قل لي إذاً يا خطيب عصرك… ماذا كنت تعني بالعدالة… عن أيِّ عدالة كنت تتحدث بالله عليك؟.
راغب دون أن يغير جلسته وبصوتٍ مخنوقٍ من الغضب:
- العدالة… العدالة هي أن نجلس نحن الاثنين على الأرض… أو على الكراسي… لا أحد أعلى من أحد… و لا أحد أدنى من أحد!
يجلس المحقق على الكرسي وهو يضحك بسخرية:
- جميل هذا الكلام… لكن أنتَ تجلس على الأرض لضعفك، أنا أعتلي هذا الكرسي لما أمتلك من القوة (يضع رجلاً على رجل وبلهجةٍ استنتاجية) إذاً؛ العدالة هي انعدام القدرة على التعدي يا راغب، لذلك حاول في خطبتك القادمة، إن خرجت من هنا طبعاً … أنْ تنشدَ القوة لا العدالة.
راغب بذات نبرته الغاضبة المخنوقة رافعاً نظره:
- هذه العدالة في نظر الوحوش …
المحقق:
- هذه الحقيقة التي يأبى الضعفاء إدراكها (يغلق الموضوع)، دعنا من ذلك وأخبرني… هل جربتَ العشق في حياتك؟؟
راغب بدهشة:
- وما دخل هذا بالتحقيق؟
يقف المحقق بملل متنهداً ويتقدم لينتصب خلف راغب، يفك أزرار كمي قميصه ويشمر عن ساعديه، يجثو على ركبتيه… ويقبض على عنق المتهم ممسكاً معصمه الأيمن بكفه الأيسر، يقول بحزم:
- أنت تجيب عن الأسئلة دون أن تسأل، حتى لو سألتك عن قياس صدر أمك… مفهوم.
يحاول راغب أن يتحرك غاضباً، لكنَّ المحقق يشد على عنقه، ويصرخ:
- هل هذا مفهوم؟
يهزُّ راغب رأسه بانصياع، يقف المحقق ويتقدم مبتعداً عن ضحيته، يتوقف ووجهه إلى الجمهور على طرف دائرة الضوء، وظهره للمعتقل، يضع يديه في جيبه:
- هل عشقت من قبل؟؟
راغب بخنوع:
- نعم …
المحقق بذات الجديَّة:
- ما نمرة حذائك؟
راغب دون استغراب وبنفس الخنوع:
- 46!
المحقق:
- هل تشك في وجود الله؟
راغب:
- نعم… أحياناً.
المحقق وهو يستدير باتجاه راغب دون أن يغير مكان وقوفه:
- أحسنت … بدأتَ تدرك القواعد (يقف خلفه) الآن… أخبرني عن العدالة.
راغب:
- لا أحد أعلى من أحد… ولا أحد أدنى من أحد.
لحظة صمت، يصفعه على وجهه من الخلف فيطرحه أرضاً، ثم ينحني بهدوء ليعيده لوضعيته السابقة وينتصب واقفاً ويديه خلف ظهره:
“جوابك خاطئ للأسف… حدثني عن العدالة”..
راغب باكياً بصمت:
- لا أحد أعلى ولا أحد أدنى
لحظة صمت، يعيد المحقق الكرة ويصفعه، ثم يعيده إلى وضعيته:
- إجابتك تزداد خطأ… حدثني عن العدالة… ما هي العدالة في نظرك (يصرخ مع نعرةٍ خفيفةٍ على مؤخرة رأس الرجل الجاثم أمامه)، تكلم.
يصمت راغب للحظة مع بكائه الصامت، ثم يقول بصراخٍ يخنقه البكاء:
- العدالة… العدالة هي… انعدام القدرة على التعدي.
يمشي المحقق باتجاه الجمهور وهو يصفق ويقول:
- أحسنت، أحسنت (يتوقف عند حافة دائرة الضوء و ظهره للمعتقل ونظره إلى الأفق)، الآن بدأت تتحول إلى مواطنٍ صالح، قف يا راغب يا حبيبي… قف (يقف راغب متثاقلاً)، أحضر الكرسي وضعه مكان وقوفك في الوسط (بعد لحظة يجرُّ راغب الكرسي حتى وسط المسرح وينتظر أوامر المحقق)، ممتاز يا راغب (وهو يستدير) سألعب معك لعبة (يتجه نحو الكرسي و يجلس، و ينزل كمي قميصه)، سأكون أنا المعتقل وأنت المحقق… ما رأيك؟
يقف راغب بجانب المحقق مذهولاً، يصمت لحظة، ثم يستفهم بغباء:
- عفواً؟؟!
يضحك المحقق ضحكة تعبر عن الاعتداد بالنفس:
- يجب أن تجرب الشعور بالقوة… لتتأكد مما أقوله لك!
صمت، يستدير راغب وظهره إلى الجمهور ويقول للمحقق بلهجةٍ جادة:
- اخلع ثيابك…
المحقق مبتسماً:
- أحسنت راغب… أنت تتعلم بسرعة
يباشران بخلع ثيابهما، يبدأ راغب بارتداء ثياب المحقق، وعندما يحاول ذاك الأخير أن يأخذ ثياب راغب ليرتديه، ينزعها راغب منه بعنف ويرميها بعيداً خارج دائرة الضوء، ينظر المحقق مذهولاً، ينهي راغب ارتداء الثياب الأنيقة وحزام المسدس، والمحقق يجلس على الكرسي بثيابه الداخلية القطنية البيضاء مذهولاً، يستدير راغب ليواجه الجمهور وهو يمسد شعره بيديه الاثنتين إلى الخلف، ثم يتجه بخطواتٍ أنيقةٍ واثقة إلى خلف الكرسي، يستند بيديه على مسند الكرسي، يبتسم ابتسامةً خبيثةً والشرُّ واضحٌ في عيونه، ثم يدفع الكرسي بقوة دون أن يفلته من يده بحيث يَسقط المحقق على الأرض، يتقمص المحقق دور الضحية بجدارة جالساً على الأرض.
يجرُّ راغب الكرسي حتى آخر بقعة الضوء، ويجلس عليه مقابلاً للجمهور، يُخرج علبة السجائر من جيب القميص ويضع سيجارة في فمه دون أن يُشعلها، ويعيد العلبة إلى جيب القميص، يقول بنبرة مختلفة تماماً عن نبرته لمَّا كان هو المعتقل، بصوت ينضح ثقةً وخبثاً وشرَّا:
- قل لي… هل تعلم ما هي تهمتك؟
المحقق الضحية بصوت منصاع:
- لا يا سيدي…
راغب ساخراً:
- ولا أنا… (يطلق ضحكة)، لكن لا بد من وجدود تهمة ما (يصمت لحظة) أخبرني ما رأيك بــ …. (متأملاً)، ما رأيك بالكاتشب؟
المحقق يرفع رأسه مذهولاً:
- عفواً … ماذا؟!
ينحني راغب وهو جالس على كرسيه, ويخلع فردة حذائه الجديد اللامع، ويرميها بقوة باتجاه المحقق المطروح أرضاً بصرخة حازمة:
- أجب على قدر السؤال، قلت ما رأيك بالكاتشب فتقول رأيك بالكتشب… وتذكر أنَّ للحذاء فردةً ثانية!
يتفادى المحقق ضربة الحذاء، ويبدو الغضب على وجهه وعينيه، لكنَّه يحاول أن يحافظ على دوره كمعتقل، يتكور كالجنين على نفسه ممسكاً ركبتيه بيديه المشبوكتين، ويبدأ الحديث بصوتٍ متقطع من الغضب وعيونه تقدح شرراً:
- الكاتشب … سائل أحمر مصنوع من البندورة!
راغب وهو يضع رجلاً على رجل بفوقية:
- أحسنت … أخبرني الآن (لحظة صمت قصيرة) ما هو قياس صدر زوجتك؟
يقف المحقق غاضباً وقد استعاد عنفوانه الأول:
- أجننت؟!…. هل نسيت نفسك أيها الخنزير العفن؟!!، كيف تجرئ يا ابن الــ…
يتقدم المحقق نحو راغب بعدوانية، ينتصب راغب كالرمح ويمتشق سلاحه من على خصره وهو يقول بلهجةٍ شديدةِ الحزم:
- عد إلى مكانك … و إلا سأطلق النار عليك
المحقق يقف متسمراً، ثم يخطو إلى الخلف بخطوات بطيئة رافعاً يديه إلى وسط جسده بإشارة للتهدئة:
- طيب…. اهدأ… ها أنا أعود… ها أنا أعود.
ويعود ليجلس في مكانه السابق، يجلس راغب على الكرسي بوضعيته السابقة ويضع المسدس في حضنه قابضاً عليه بيمينه وبريت عليه بيساره، يبتسم بسمةً خفيفة، يرفع رأسه ليكرر السؤال على فريسته:
- كم قياس صدر زوجتك؟؟
يصمت المحقق الضحية لحظةً، ينظر إلى الأرض وراغب يراقبه بفرح سري، يجيب المحقق منكسراً:
- 85
يصرخ راغب:
- ارفع صوتك!
يرفع المحقق صوته المتكهرب من الغضب الممزوج بالعجز:
- 85
يرسم راغب تعبيراً عن الإعجاب على وجهه:
- مثاليان… جداً، هل هما متساويان؟؟
يجيب المحقق بذات اللهجة المنكسرة والمنصاعة:
- نعم … إنَّهما كذلك
راغب:
- أحسنت، أحسنت…. (لحظة صمت، ينزل رجله على الأرض ويستند بكوعيه إلى فخذية حانياً ظهره إلى الأمام, ويقول بصوت حازم)، اسمع يا هذا … أنت متهم بالخيانة (يرفع المحقق رأسه مذهولاً)، وستخبرني الآن عن الجهات الأجنبية التي تخابرت معها… (يعود راغب بظهره إلى المسند)، كلِّي آذانٌ صاغية… أطربْ أذنيَّ…
المحقق مستغرباً مع ابتسامة غبية:
- أنا لم أتخابر مع أي جهات أجنبية..! فــ…
يقاطعه راغب بذات اللهجة الواثقة:
- كم مرة؟؟
المحقق مذهولاً بذات البسمة الغبية، وكأنَّه في كوكب آخر غير الذي يعرفه:
- كم مرة ماذا؟!!
راغب بلهجة توحي أن السؤال غاية الوضوح:
- كم مرة لم تتخابر مع جهاتٍ أجنبية؟؟ …. أقصد تلك الجهات التي لم تتخابر معها!!
يبدأ المحقق بضحكة هادئة، تتصاعد مع وقوفه، ينظر باتجاه راغب، يتوقف عن الضحك تدريجياً، ويطلب بجديَّة:
- جيد… هذا يكفي، هيا قم واخلع الثياب (يمد يده) وأعطني السلاح، دعنا نكمل ما كنا قد بدأناه… هيا… هيا انتهت اللعبة.
ينقل راغب السلاح من يده اليمنى إلى اليسرى، ينحني وهو جالس على كرسيه، يخلع فردة الحذاء الثانية ويرميها باتجاه المحقق الذي يفشل في تفاديها هذه المرة, يقف راغب منتصباً حاملاً السلاح بكلتا يديه، بينما المحقق يأن ألماً والمسدس مصوبٌ إليه، عيونه تنظر إلى راغب بغضب، يكسر راغب الصمت الذي خيَّم:
- أنت من يحتاج لتجربة الضعف… ولست أنا من يحتاج لتجربة القوة (يصرخ)، اركع. (يجثو المحقق على ركبتيه)، لم تحتمل أن تكون ضعيفاً لدقائق، لم تحتمل أن تكون الأدنى… وأنا احتملت حذاءك سنواتٍ فوق وجهي،(يتقدم نحو المحقق) الآن فقط… الآن تستطيع أن تدرك معنى العدالة والحرية والفقر والضعف؟! (يركله على خاصرته و يرجع بخطوة سريعة للخلف)، الظلم عندما ينهش لحمك يعلمك العدالة، (يلتف خلف المحقق ويركله على ظهره بباطن قدمه، يقع المحقق أرضاً على جنبه وهو يتلوى ألماً، يزداد صوت راغب غضباً) القيد الملفوف على معصميك يعلمك معنى الحرية، الخوف المستمر القابع في أحشائك يعلمك الرغبة بالأمان…
المحقق:
- لكن….
يصرخ راغب:
- اخرس..
يتقدم راغب نحو المحقق المستلقي على جنبه، يضع رجله على طرف كتف ضحيته ويجبره على الاستدارة ليستلقي على ظهره، ثم يضع رجله على رقبة المحقق الضحية، وينظر إلى عينيه مباشراً وهو يرتعش غضباً ويشتعل حقداً، ولا يزال قابضاً على المسدس بكلتا يديه ومصوباً إياه إلى رأس المحقق الذي يتلوى ألماً و يجد صعوبة في التنفس، يقول راغب:
- بالموت وحده…. بالموت تدرَك الحياة…. عندما تموت ألف مرة في اليوم… تدرك ما هي الحياة… (يضحك ضحكة لئيمةً قصيرة)، أترى … من السهل على المظلوم أن يرتدي ثوب الظالم وعلى الضحية أن يحمل سوط الجلاد (يرفع قدمه عن عنق المحقق الذي يتنفس وكأنَّها أول مرة، ويتراجع قليلاً إلى الخلف محافظاً على سلاحه موجهاً لرأس عدوه الذي يتلوى ألماً)، نحن مهزومون من الداخل أيها المحقق العظيم… يا حامي الحمى… لا نحتاج لغازٍ مسيل للدموع حتى نبكي (يبدأ ببكاءٍ غاضب)، ولا نحتاج إلى رصاص يخترق جلودنا كي نموت (يعدل المحقق جلسته ويتراجع حتى طرف دائرة الضوء مقابلاً لراغب والخوف غير ملامحه)، (يتابع راغب مع ضحكة) أنت خائف…. طبيعي… هذه حقيقةٌ واضحةٌ كالشمس، لكن ما أن تنظر إليها مباشرةً حتى تبعد عينيك عنها، أنتَ الآن لن تستطيع أن تفكر بشيء إلا النجاة، تُطمئنُ نفسكَ أنَّ هذا الكابوس سينتهي (يصرخ) هذا ما نفعله منذ سنين وأنت تجلس آمناً في حضن زوجتك.
يقول المحقق محاولاً تهدئة جلاده وكأنه يريد أن يعقد معه صفقة:
- اهدأ يا راغب… سأساعدك… سأقدم لك المعونة، لكن توقف عن هذا المزاح وأنزل سلاحك، كفانا لعباً يا راغب!
راغب يطلق ضحكاتٍ مجنونة، ثم ينظر لضحيته مباشرة مع نهاية ضحكته:
- لعبتم بنا أكثر مما تحتمل قلوبنا الضعيفة… والآن دورنا (بحزم أكثر) أنا أمتلك القوة الآن… وأنت لا تملكها (يرفع صوته)، أنا الأقدر على التعدي، أليس هذا كلامك وطريقتك.
المحقق متودداً:
- قل ما الذي تريده مني … وأنا مستعد
راغب:
- ما أرغب به لن تستطيع منحي إياه… لا تملك القوة الكافية لذلك… بل سأنتزعه رغماً عنك، (يقترب خطوة إلى الأمام)، أريد أن أترجم لك الحياة بالموت (يلقم سلاحه) أرغب في أن أرى العدالة تتحقق كما أعرفها أنا وكما تراها أنت في آنٍ معاً… لكني أربحها وأنت تخسرها، (يقترب خطوة أخرى بينما يتراجع المحقق خائفاً متوسلاً)، هذا كل ما أرغب به أيَّها الظلم… هذا كل ما أرغب به
يقف راغب منتصباً قابضاً على سلاحه بقوة وحزم، والغضب واضح في عيونه، يقول مع انخفاض الإضاءة وسلاحه موجهٌ إلى خصمه:
- وداعاً أيُّها الظلم ………. وداعاً جداً
تنطفئ الإضاءة، يصدر صوت رصاصتين متتاليتين، تفصل بينهما عبارة راغب الأخيرة صراخاً، يعود الضوء، راغب المحقق جثة هامدة على الأرض وثيابه القطنية البيضاء ملطخة بدمه، راغب جالس على الكرسي ينظر إلى الأعلى ويضع فوهة المسدس أسفل ذقنه، يهمس بصوت مسموع:
- وداعاً أيَّها الظلم… وداعاً
تنطفئ الإضاءة، صوت رصاصة….
كاتب سوري ـ الخرطوم | خاص موقع قلم رصاص الثقافي