لا، لم أقدر مدى جديته وهو يصرح قائلاً: “لا لن أتعب نفسي بعلاقة جدية مع أمرأة لا تحمل باسبوراً أجنبياً”، كان شاباً لبنانياً متعلماً وذكياً جداً ذو مهارات علمية حاذقة وشخصية جذابة في بداية ثلاثينياته، استطرد : “لقد تعبت من مراجعة السفارات من أجل فيزا، أنا لا أريد أن أهاجر فالبزنس بخير هنا، وكذلك الطقس، فأنا لا أحب البرد إطلاقاً أحس بنفسي سجيناً عندما أتقدم بطلب الحصول على فيزا وترفض”.
وأكمل حديثه، ولكنني أنا كنت قد شردت، فتتمة هكذا حديث مهما استطالت فهي معروفة ومكرورة، ولكن المصيبة أنها محقة أو أن أصحابها على حق، شردت مستعرضاً حكايا الحب التي عرفتها في بيروت المدينة المجمع لشباب المشرق المسمى عربياً، حكايات حب وغرام بدأت في الجامعة أو في العمل تنتهي ببساطة لمجرد تعارف حصل بين شابة وأجنبي أو شاب وأجنبية، تنتهي هكذا بكل واقعية “سحرية”، تنتهي بـ “سأظل أحبك طوال عمري ولكن لا تقف / تقفي، في طريق مستقبلي”، وهناك من يتواعد على الطلاق والعودة بمجرد الإنجاب والحصول على الباسبورت، نعم إنها حكايات عرفتها عن قرب ولا أدعي أية قيمة إحصائية لها، ولكنها مثال واحد، واحد فقط عن طرق الحصول على باسبورت جديد، وأقول الحصول على باسبورت جديد وليس الهجرة بمعناها الإنساني الحقوقي العام حسب شرعة حقوق الإنسان، كأن ينقل إنسان ما مواطنيته من مكان الى مكان.
وأخترت هذا المثال أو هذه الطريقة لأنها تشكل أنموذجاً لعدم رضا الناس عن تصنيفهم نسبة إلى بلدانهم الأصلية قدمت هذا الشاب اللبناني كأنموذج عن نوعية ممتازة التعليم وإتقان اللغات، ولكن هذا الأنموذج يتوسع ليضم كل جنسيات الشرق الأوسط الكبير أو الصغير بالإضافة أنه يتمدد على الجنسين من ذكور وإناث منفتحين أو محافظين، ولقد صادفت الكثير من النماذج المتنوعة الناتجة من هكذا طريقة للحصول على الباسبورت، فإذا أضفنا بقية الطرق والأنواع التي تؤدي الى نفس الهدف، فنحن أمام مشكلة ثقافية عارمة، وأقصد بالثقافية هنا هي مجموع المعلومات التي تكمن وراء السلوك البشري، حيث تصطدم السلوكيات الناتجة عن العديد من “الثقافات” مع بعضها بالإضافة إلى اصطدامها بسلوكيات أهل البلد المضيف، لينتج عنها خبيصة ثقافية سلوكية (عادة ما تسمى اصطدامات هوياتية!!) يعود بها حامل البسبور الجديد إلى البلاد ليمارس خبيصة أخرى تحت مسميات التحضر والتقدم بغض النظر اذا كان قد تحضر أم لا.
طبعاً هي ليست اصطدامات هوياتية، وهذه كذبة ثقافية يختص بها نحن “العرب” الذين يشعرون بالاكتمال المعرفي، إنها الكذبة الكبرى، فالهوية هي شخصية المجتمع / الأمة التي تعرف بمنتجاتها المفيدة المعاصرة، وهذا الذي لم تنجزه أو تحققه أية أيديولوجية على أرض الواقع، إذ لا منتجات معرفية معاصرة يمكن الاعتداد بها، أو التعويل عليها، أو حتى الدفاع عنها وحمايتها، فـ “العرب” عملياً لم ينجزوا شيئاً يدافعون عنه، حيث أن من أهم ما يمكن الدفاع عنه هو المجتمع المؤسس بالإرادة القابل لإنتاج دولة ولكن فقط إذا كان موجوداً في الواقع….
المجتمع هو المنحة الكبرى للمعرفة الإنسانية لم يتمكن “العرب” من تحقيقه، وهو بدهية كبرى من بدهيات العصر، لذلك لا يبدو الباسبورت “العربي” مقبولاً حتى من حامليه فيتوسلون أوهى الحقائق للحصول على باسبورت يضمن لهم إنسانيتهم حسب شرعة حقوق الإنسان على أقل تقدير، ولو كان ذلك على حساب الحب أو أية قيمة عليا يمكنها في حال عدم تأييدها أن تفرغ معنى الجنسية الجديدة من قيمها ولكن ليس من قانونيتها.
لا يمكننا الإدعاء أن الانتقال بين البسبورات هو مؤامرة علينا، فلم يدعونا أحد إلى هذه الوليمة الدسمة التي أثبتت الوقائع أنها تسمن وتغني عن الجوع المتمثل بواهية الهوية غير المجتمعية، التي لم تستطع أن تهيكل لها صورة مدنية معاصرة يمكن تداولها عالميا حسب شرعة حقوق الإنسان، فحتى الحب كعلاقة شخصية سامية لم تستطع أن تتهيكل بصورة مدنية إنسانية معقولة يمكنها النفاذ من خبيصة الهويات الموهومة، التي تشكل واقعاً قمعياً للمشاعر الإنسانية النبيلة، ليبدو إغراء باسبورت الآخر أكثر مقدرة على استقطاب الراغبين في التخلص من هذا الواقع، ولكن مع الاحتفاظ بحق النكوص إتكاء على تلك الهويات المزعومة.
يعج العالم العربي بمزدوجي الباسبورات، كما يعج العالم الغربي بمنتظري هذا الازدواج بالحصول على باسبورت جديد، ليبدو السؤال مشروعاً حول من أين أتت كل هذه الأعداد ولماذا؟ وهو سؤال محوري نتجاهله بعزة منقطعة النظير، لتبدو الأسباب واهية أمام عظمة الهويات المزعومة، وبالتالي السير تحت راياتها نحو انسدادات ثقافية تنفجر عنفياً في كل مرة تتلامس فيها الباسبورات الجديدة مع الهويات المحمولة مسبقاً، والتي يعبر عنها بالباسبورات القديمة غير المرضي عنها، ليبدو الإنسان خجلا بباسبوره القديم ومفتخر بهويته المحشو بها دون أية مرتسمات حقوقية يعبر من خلالها عن وجوده المأثور، وبينما يتم تبرير جرائم الشرف، والعمليات الإرهابية، ووقائع التحرش الجنسي، والاعتداء على الاحتفالات، بضرورة احترام الخصوصيات (الهويات)، يقوم حاملي الباسبورات المستجدة بالاعتداء على المعنى الحقوقي ( المجتمعي ) لباسبوراتهم، إن كان في بلدانهم القديمة أو الجديدة، مفرغين شرعة حقوق الإنسان بالهجرة واللجوء والسكنى من أي معنى إنساني، وهذه واحدة، واحدة فقط من المشاكل الظاهرة،ولكن المخفي أعظم.
ليست عمليات الهجرة أو اللجوء من عالمنا الى أصقاع الدنيا ظواهر مستجدة، (وكذلك عند الآخرين ممن وصلوا الى الأميركيتين وأستراليا) ولكنها لم تكن ولا مرة موضوعة على طاولة البحث الاجتماعي أو المجتمعي، فالهجرة أو اللجوء في العصر الحديث ظاهرة قديمة ساهم فيها العثماني والتركي بصورة أساسية، ولكن واقع الحال المجتمعي كان الأشد تأثيراً فيها، فتأخر ولادة المجتمع الحديث حتى أيامنا هذه، يشكل قوة طاردة تأسيسة لهذه الظاهرة، وعلى الرغم من المجازر المشهورة التي أرتكبها العثماني والتركي، إلا أن ضحاياها لم يكونوا أحداً ولم يصبحوا كذلك، فهم ليسوا أبناء مجتمع، وهذا ينطبق تماماً على بقية السكان، ومن هنا تبدو الهوية أو الهويات مزعومة تماما قادرة على التفريق والتمزيق أكثر منقدرتها على التوحيد وإقرار التسالم، وهو ما يبدو المحفز الأول والأساسي على الهجرة والحصول على باسبورت ذاك الآخر الآثم المقتول بالضرورة، فعدم الشعور بالأمان المجتمعي بما يعنيه حقوقياً، يتجاوز بالكم والنوعية ذاك الأمان الاجتماعي غير الواضح (أو حتى الظالم)حقوقياً، وهذا لا ينطبق على “العرب” وحدهم بل على جميع الشعوب التي فشلت في تأسيس المجتمع الحديث، وهو نفسه ما يجعل للاستعمار الغربي تحديداً فضائل لا يمكن نكرانها.
إنها دائرة مغلقة من ثقافة الجهالة المضادة لنفسها، حيث العقل مؤجل إلى أجل غير مسمى، فبينما نقوض “الهويات” الأخرى أخلاقياً، نسعى بكل جهودنا للاستفادة من منجزات اللافضيلة بناء على معارف مستقاة من تلك الثقافة.
ملاحظة من خارج الموضوع : تتعلق بالفارق غير المفكر به بين مفردتي ( الاحتقار) و( الازدراء)، هما ليستا ذات المفردة ولا بد أنهما تحملان معنيين مختلفين تماماً، ربما لو فكرنا فيهما لتوصلنا الى توصيف واقعي لمعنيهما.
مجلة قلم رصاص الثقافية