أذكر ذلك المساء جيداً حين كنا نجلس في صالون شقتنا البيروتية، وسألنا أحد الأصدقاء وهو مهندس شاب من مدينة حماة السورية، هل يوجد سيارات في الرقة؟
نعم لقد ضحكنا حينها كثيراً كثيراً، واحتجنا برهة من الزمن حتى نجيبه عن سؤاله، ومثلها كي نعرف إن كان يمزح أو يسأل جاداً، وكلما حاولنا ضبط أنفسنا لفهم السؤال عدنا للضحك من جديد، هو الوحيد الذي لم يضحك بل كان متجهماً ينتظر جواباً عن سؤاله البريء، وقد يضحك بعض الأصدقاء مجدداً وهم يقرأون كلماتي ويتذكرون تفاصيل تلك الحادثة.
أنهينا ضحكنا وقلنا له: لا أبداً ما زلنا في الرقة نسكن الخيام ونركب الأحصنة، ليس رفضاً لنهج التطوير والتحديث ما عاذ الله، إلا أن هذا النهج لم يصلنا بعد وخربت البلد قبل أن ننعم بثماره!
أعاد هذا الحديث موجة الضحك مجدداً، وتلون وجه صاحبنا حتى لم يعد يدري كيف يبرر أو يرد، وحاول أن يفسر معنى السؤال إلا أن أحداً منا لم يكن ليقنع بأي تفسير ممكن.
كانت تلك الحادثة مفتاحاً لقصص كثيرة تداولناها في تلك الليلة تركزت حول ظلم محافظة الرقة وتجاهلها من قبل الحكومات السورية المتعاقبة، حتى أن معظم أهلها لا يذكرون من محافظيها سوى محمد سلمان الذي تولاها في ثمانينيات القرن الماضي، أما البقية فجاؤوا وذهبوا دون أن يتركوا أثراً يُذكر، باستثناء عدنان السخني الذي تولى شؤونها في عام ٢٠١٠ وعمل على تحسين البنى التحتية وتجميل المدينة إلى حد ما.
لا يُلام صديقنا إن لم يكن يعرف شيئاً عن الرقة، لأن التعريف بالمدن يقع على عاتق البرامج الحكومية في بلد تقبض حكوماته حتى على الأنفاس، والحقيقة هي أن أحداً لم يكن يعرف الرقة كما يجب قبل عام ٢٠١٣، والفضل في شهرتها يعود لتنظيم “داعش”، ومهما حاولت إقناع الناس أننا لسنا “دواعش” وإن هذا الفكر ليس فكرنا ستبقى بعض الريبة تسيطر عليهم، ولا يُلامون أيضاً لأنهم لا يعرفون أن أهل الرقة ليسوا متدينيين أساساً، حتى أن الريف أكثر انفتاحاً من المدينة والمرأة في الريف عندنا لا ترد الضيف إن لم يكن هناك رجلاً في البيت، إنما تدخله المضافة وتقوم بواجبه إلى حين مجيء الرجال، وأعراسنا مختلطة، وكانت “زمارات” أبو فيصل وحمد الشبلاوي وعلي السند يجمعن من البشر ما لا يجمعه أئمة الرقة مجتمعين، وكل فتاتين إلى جانب بعضهن في الدبكة نسميهن “طيارة”، والشاب الذي يتجرأ ويدخل بينهما في الدبكة هو “الصاروخ” الذي يُفجر تلك “الطيارة”. كان ذلك قبل أن تبدأ كل طائرات العالم بالتحليق في سماء الرقة.
كذلك لم نكن نعرف النقاب في الرقة قبل “داعش”، والمرأة التي ترتديه تصبح مثاراً للشبهة الأخلاقية وليس رمزاُ للتدين لذلك لا تجد نقاباً في مدينة الرقة أو ريفها.
إن جهل الآخرين بنا مرده الأساسي إلى تجاهل الحكومات المتعافبة لمحافظة كاملة وتهميشها بشكل ممنهج وغابت ثقافتها وحضارتها وأوابدها وراحت تندثر وما عادت تُعرف إلا بـ”داعش”، ويحتم الواجب الأخلاقي على الأدباء والفنانين والصحفيين ممن كانوا يزورون الرقة ويحضرون فعالياتها الهامة على المستوى العربي وليس السوري فحسب أن يقولوا شهاداتهم ويكتبوا عن تلك المدينة التي زاروها وعرفوا أهلها عن قرب، وهذا أضعف الإيمان.
مجلة قلم رصاص الثقافية