بشرى البشوات |
السيلان داخلي لم ينقطع، لكن صوتي تصلب في حلقي.
لبست فكرتي في قدمي، دسست قدمي اليمنى في فردة حذائي اليسرى ومشيت أعرج باليسار، أردت أن أكون عادلاً والعدالة حالة اقتناع.
صار عليّ أن أعتاد هذه الفكرة، يجب أن أتدبر أمري وأقضي حوائجي دون تململ هكذا وأنا بفردة واحدة.
في تلك الليلة هزتنا أمي، نضّت عنّا الأغطية اقتلعتنا من حضن النوم إلى حضن الشارع الذي احتوى بين ضفتيه الكثيرين.
لقد قضّ الغرباء مضاجعنا، ولم يمنحوها فرصة لتبخر الفراش.
في المكان الذي حشرنا فيه تكومنا دون ترتيب، لذلك لم ينتبه البعض إليّ، والبعض الآخر ظنه شكل من أشكال التسول.
استلقيت على ظهري، رفعت ساقيّ على طول الجدار، باتجاه النافذة المثقوبة بالهزيمة.
مددت ساقيّ على قدر استطاعتي كنت أقيسهما لأعرف أيهما أطول؟!
كانت متساويتا الطول ومع ذلك كنت أعرجاً.
رحت أحجل لأطرد شبح أبي عن مخيلتي. مات أبي وكانت المآسي بعده تضاجع أمي وتتركها حبلى بالذكريات. تلد أمي بوجع مضاعف وهذا الذي نحن فيه ولادة متعسرة.
دفعتنا أمامها وتأخرت لبضع ثوانٍ، نقعتنا في الظلام ريثما تعود، وحين رجعت سارت بنا جهة النور، ولما صرنا على حافة الضوء قعدت متهالكة.
مدت ساقيها وراحت تدعكهما بيدين هزيلتين وأصابع مرتجفة.
كانت قد شدتني من ذراعي ومشينا.
صرخت، بكيت، ناديت عليها: أمي ..أمي
تخلصت من يدها، عادت وأمسكت بي من طرف كنزتي وسحبتني، تعال يا ولدي: لاتلوي عنق محبتي أخاف إن شددت أكثر أن تقطعه.
قالت هذا الكلام دون أن تلتفت إلي.
صوت الدوي المرتفع أزاح توسلاتي عن ساحة سمعها، لم تنتبه إلى ذلك الميلان في مشيتي لأنها وعلى طول الوقت كانت تنظر إلى الأمام، فيما سرب عصافير طار أمامها، تطير العصافير حافية وهذا يقيها فجيعة الفقدان.
لم يكن لدى أمي أدنى شك في أنني أفكر بأشياء غريبة.
هذه المرأة المصابة بالذهول لم تعر بالاً لعرجي، ولم تطلب إلي نزع فردتي اليتيمة.
تقول أمي بأن: الولد جنّ ليفعل هذا.
لم أكن مخبولاً بل عاقلاً كفاية لأعرف بأنني قد فقدت فردة حذائي، وها أنا أعرج بالاختيار.
في نهاية هذا النفق، نهاية خط العتمة، وأنا أنسلّ من ليل أسود لأدخل عالماً أبيض.
تستيقظ المدينة من نومها مسكونة بفضلات العابرين والمقيمين وأنا أستيقظ من نومي لأبحث بين أكوام الألم عنه. في الليل حين نأوي إلى فجيعتنا فرادى، تنسلّ أمي من تحت لحافها، وما أن تقترب حتى أقفز من مكاني لأنني كنت قد أحكمت شد الرباط لففته على ساقي فتورمت قليلاً، وهذا ما أقلقها.
لم أنم في لياليّ السابقة وأنا أنتعل حذاء، الآن ستعبر بي ليالٍ كثيرة وأنا أغرز قدمي في فردة شاحبة منفّرة ومنفردة.
في الطريق العائدة بي جهة الركام، كنت أقطعها يومياً أبحث عنه، كان أبيض وبرباط أسود. لم يبق في المكان غير العتمة والوحشة والقليل من العراء، والأرض التي كانت مستوية ومستديرة، صارت محدودبة ومنكسرة.
لقد انكسر ظهر الأرض .
دخلت من الطاقات المفتوحة إلى بيوت افترشها الظلام، الأعمدة المنهارة، والأسقف المطروحة على الأرض كقتيل جعلت مهمتي في البحث صعبة.
لن تنزع عصاي الرقيقة هذه أكوام الحجارة من مكانها. كنت أفتش طيلة النهار ثم أعود مساءً إلى أمي معفراً ومدمى، فلا يكون منها إلا أن تصفع يدي المتورمتين وتطلب مني ألا أعود لمثل هذا.
لم أخف من تهديدها وأعدت الكرّة، كل يوم كنت أعيدها. فما أن تخرج لتقف في طابور اللاحقين بالحياة حتى أنتهز الفرصة وأخرج بعد خروجها بقليل.كابدت مشقة في ذلك .
تقيحت قدمي اليسرى وانتفخت كطبل لكن ذلك لم يردعني. كنت أرجع إلى هناك كل صباح، لابد أنها هنا في مكان ما. لن يأخذها أحد، فما حاجة الآخرين لفردة حذاء. أراحتني هذه الفكرة وعززت الأمل في صدري.
صرت آتي كل يوم وأعود آخر نهاري مطأطئ وممرغاً بالخذلان.
لم أجدها، لم أجد فردة حذائي اليمنى.
بحثت، فتشت، ليالٍ طويلة مرت بطيئة لكنني كنت أفتش. انتقلت بالبحث إلى بيوت الجيران والحارات القريبة وحتى البعيدة عن حطام بيتنا …لم أجدها.
بعد هذه الحادثة بشهر وأكثر اشترت لي أمي حذاءاً جديداً بفردتين.
مرت سنوات وأنا ألبس حذاءاً بفردتين، لكنني بقيت حتى هذه اللحظة أعرجاً.
قاصة سورية ـ ألمانيا | موقع قلم رصاص الثقافي